١* يُحيّي ويحتفي كثير من مواطني البلاد هذه الايام بام الجامعات السودانية “جامعة الخرطوم” وهم يستذكرون هذا الشهر (٨ نوفمبر) مرور اثنان وعشرين عاما بعد المئة على تأسيسها عظيم المورد. ٢* كانت جامعة الخرطوم مؤسسة ذات حضور وتأثير كبيرين في بلادنا، ليس في مسيرتي العلم والتعليم وحدهما وإنما في مسيرة الدولة والمجتمع والحياة السودانية باجمعها، تماما كما كان اثر كثير من المؤسسات التعليمية التي شابهتها تاريخيا في العديد من دول العالم. ٣* تظل جامعة الخرطوم عبر تدرجها في سلم المراحل هي حضارة السودان الحديث وهي رائدة تأسيس الأعراف والتقاليد في مجالي العلم والتعليم على أرضه. اثرها في هذا الجانب عظيم ويَحجاها من كل سوء ويحظى بتقدير وطني مشهود يكاد أن يكون متفقا عليه. ٤* في موازاة ذلك -وربما بسببه- تنكبت جامعة الخرطوم الطريق أكثر من مرة ومرة أثناء عُهدتها الوطنية وكَبَت من الكبوات ما هو أقرب إلى النكبات بسبب ولوجها، او بالأحرى انزلاقها المتهوج إلى حلبات الصراعات السياسية غير الرشيدة بتأثير نخبٍ من خريجيها الغارقين في الحزبية الواهمة من جانب والحزبية العميلة من جانب اخر، فاستغلوا “المؤسسة” وظنوها مُلكا لما اعتقدوا وسخّروا اسمها فيما ليس لها به لا علم ولا مَركِب، فتاهت الجامعة بسببهم تيها “مؤسسيا” وتواضع امرها حينما واجهتها الحقائق وكبُر اقرانها من جامعات البلاد حولها على غير ما كَبُرت هي، فعادت “الست” لتسترشد بما يجب عليها أن تكونه. وفي هذا الحيز، لن نذهب بعيدا في تعداد تلك التواريخ التي تدلل على زعمنا وامثلته بعد أن حملت مسمى “جامعة” العام ١٩٥٧ ونكتفي فقط بالاشارة الى ما آلت جامعة الخرطوم على نفسها أن تفلح فيه من جهد متدارٍ لحلول وطنية “انتقالية” على إيقاع تطورات انتفاضة البلاد العام ٢٠١٩. لم يحظ ما آلت وتصدت له نخبة جامعة الخرطوم العلمية في شأن تلك الانتفاضات الشعبية بصدى يذكر، لأنه لم يلامس اي “جوهر” من أمور البلاد بالجرأة التي يفرضها العلم بالحقائق كما هو متوقع في القلاع “الجامعية”. حدث ذلك الذي حدث نسبة لذات تلك الحيثيات والمسببات التي رأيناها أو قرأناها وهي تحاول ان تمنح جامعة الخرطوم صكّا سياسيا عند الملمات دونما “مَلَم”، وهذا بالطبع أثر من آثار السِيَر القديمة غير القابلة للتجدد. ٥* رغم كل سالبةٍ ومَحمَلة تظل جامعة الخرطوم صرحا سودانيا صميما بالغ الاهمية لكل مواطن سوداني موجود الان او سوف يولد من بعد، درس فيها يوما او ردحا ام لم يدرس، هي رصيد يستحق أن يحافظ السودان عليه بحرص القابضين، وأن يعتني به مثل ارصدة عديدة لمؤسسات اخرى ذوات صيت وذوات ساريات على هذه الأرض السودانية. ٦* في مثل هذه المناسبات حَريّ بجامعة الخرطوم أن تتنادى علماءً ومؤرخين، ليتدارسوا امرها وحاضرها ومستقبلها وكبواتها بإعلان جديد يكون كالميثاق يحدد مسارها المستقبلي بشكل صارم يجيزه التشريع ولا يكون فيه مجال لتلاعب او لموالاة، لا من خلال الأفراد والقيادات التي تتقدمها ولا من خلال النظم المطبقة ولا من خلال التكوين الداخلي لمؤسساتها العلمية والتدريسية والطلابية. ٧* وكعربونٍ ابتدائيّ منا لذلك الميثاق من اجل عودة جامعة الخرطوم إلى لواء الأصالة والأمانة، فإنني أتجرأ وأقترح على مجلسها او على مجلس بلادنا القيام بما يلي: @ ١- تخصيص مساحة امام مبنى الجامعة الرئيسي والتاريخي المعروف تحمل اسم اللورد الانجليزي تشارلس غوردون ويتوسطها نصب تذكاري تكريما لذكراه الحسنة ومقتله الأليم واحتراما لمن جمعوا المال من مواطني بريطانيا العظمى من أجل قيام هذا الصرح في بلادنا إحياء لمأثرة أحد أبطالهم الوطنيين كما رؤوها ونراها معهم كذلك. @ ٢- العمل على تفكيك ما تنوء به هذه الجامعة من كليات لم تنشأ من داخلها وبتخطيطها وعنايتها لتنمو باضطراد وانما آلت اليها بطريقة “الاستحواذ والضم” وربما “التكويش” في بعض الاحيان دون مسوغات موضوعية، بسبب اضطراري احيانا او بغيره احيانا اخرى، فتضمخت واختلت بذلك هويتها عبر الزمن وتعثرت انطلاقات كبرى كانت بين يدي الجامعة القديمة وفي أفق الكليات المستحوذ عليها والتي تكومت بجريرة (الإضافة) لجامعة الخرطوم وليس ب(الاتباع)، لذلك لم تستفد تلك الكليات شيئا من كونها “تتبع” جامعة الخرطوم. اقول ذلك وأعني تحديدا مَجمع كليتي الطب والصيدلة (الخرطوم) ومجمع كليتي الزراعة والبيطرة (الخرطوم بحري) ومجمع كليات التربية (امدرمان). في تقديرنا أن ينفصل كل مجمع من هذه المجمعات بتخصصاته النوعية هذه ليصبح أكاديمية عليا مستقلة بحالها وأهليها، وان يتم نقلها من بعد إلى مساحات موضوعة وفسيحة من الارض بدلا عن مساحاتها الحالية ليساعدها ذلك على الانطلاقات المأمولة. @٣- اما ما لن تبادر بتغييره جامعة الخرطوم وسيكون امره ومبادرته مع شبيهه من الامور شأنا من شؤون دولة التشريع القادمة فهو هذا الشارع المهم الذي تقع قبالته هذه الجامعة في عاصمة البلاد وتشغل منه على جانبيه حوالي ٨٠٠ متر (ربع طوله تقريبا). ان ما يمكن ان يصبح أولوية تليق بنا هو القيام بإعادة اسم (تشارلس غوردون) إلى مسمى هذا الشارع المهم كما كان في سابق عهده، فالتاريخ لا يسع أن يتسمى هذا الشارع بشارع الجامعة (والمقصود طبعا جامعة الخرطوم) دون استحقاق، وما جرى من تغيير لاسم هذا الشارع يندرج تحت ما اسميناه بتاريخ الانزلاقات وباقات المودة التي ارادها خريجو كلية غردون (الاستعمارية زعما) ثم كلية فجامعة الخرطوم لنجواهم، اقول ذلك واعلم أن ما قلت لا يكفه الحيز ولا الحديث. @ قبل الختام، على جامعة الخرطوم أن تسعى سعيا امينا ومُعبّرا عنه تعبيرا عمليا لتقدير “الاكاديميا” البريطانية التي رعتها باحترام واهتمام وأقوَت سواعدَها وجعلتها نظيرة لها وعين من عيون التعليم المجيد في القارة الافريقية، وأن تكرم الجامعة -علاوة على ذلك- من عملوا بها وشرّفوا اسمها وسمعتها في الآفاق من علماء السودان وبلاد العرب وأوروبا بأي من طرق التكريم الذاكر والفعال بدلا عن هذا التثاؤب الكئيب الذي يرنو عليها بينما ترقد في سحارتها لفائف من ذهب. @ ثم اخيرا وليس اخرا، على جامعة الخرطوم أن تكون مثالا للتقاليد الراسخة التي بدأتها وارستها في أوقات سابقة وأن تبعد عن فِعال الدسيسة والحبائل مثل أن تقوم بسحب “دكتوراة فخرية” من شخص اعطتها له بكامل وعيها وكمال علماءها، ليس من باب المراجعة للخطأ وانما بسبب من اختراق السياسة وحُمولاتها المُؤسية لها ليس غير. وفي هذا السياق، على قيادة منظومة التعليم العالي الحكومي أن تتخير لمجلس إدارة جامعة الخرطوم -مثلا- أُناسا حكماء قبل أن يكونوا علماء، يعرفون ما الفرق بين المجلس العسكري الانتقالي ومجلس السيادة الانتقالي، وبين قرار تصدره الحكومة واخر تصدره المحكمة، وبين مجلس للجامعة واخر للاساتذة، هذا للأسف ما بدا ويبدو من احوال مجلس جامعة الخرطوم الحالي التائه والهامد والمترهل كذلك.