(الأربعاء وموسيقى الجوع)
المرقى الثالث: (الجوع أقصر الطرق إلى الخطيئة) :
كان صديقنا جمال أو جيمي كما يحلو ، مثل صديق صلاح عبد الصبور الذي ينتظر الليل ليتحول عاصفة مخمورة، ولكن (الممعود) لا يقربها..
نسيت صاحبنا عوض، والذي كنا نؤنثه دون غرض (عوضيه) ولا أذكر السبب رغم أن لا مظهر فيه إلا ويعبر عن فحولة كاملة، وفوق ذلك كان الأمهر في اشتمام مخابئ (سماسرة) السعادة، يبدو أن دوافعنا لم تكن إلا طريقة لإضفاء تعليلٍ غائب عن النص.
كان الطريق إلى محل الفول يمر عبر (سعوط) الوطنية وقد اكتسب هذا الاسم بسبب جيرته والسينما، وهو محل مشهودٌ بجودة (تنباكه) ما دعى بعض خبثاء بحري أن يشيعوا تهمة مفضوحة أنه يخلطه بشيء من مخدر ليفسروا سر الإقبال عليه، ولعلها حيلة من بنات المنافسة في السوق.
وبعد الشارع المحاذي لطرمبة الشايقي من الجهة الشرقية ترابط كلاب البوستة بعد يوم طويل وعادة ما تكون في ذروة إثارتها يبدو أنها شاركتنا الفرجة في تقاسيم (مادوري ديكسيت)، وهي بطلتنا المفضلة- فاليوم الذي فيه مادوري تزيد مبيعات المناديل من نوع (الفاين).
كانت عمارة إبراهيم طَلْب تحتفظ بسطوتها، فهذا المبنى أعطى المدينة بلاغة عمرانية لا تخطئها العين، وكما كان الظل تحت عمارة طَلْب مرقد آمن لمرهقين من عُمال السوق، كان هذا قبل أن تكتنف المبنى عوامل النسيان. وبالطبع كان محل “حلويات بحري” هو المكان الذي يقصده طلاب الحاجات المقننة فيتزودون بالطاقة منعاً للإحراج في الليالي المعمورة بالقهر اللذيذ، وبالقرب من المحل يتراص طلاب حاجات أخرى يمدون الكف للحصول على ما يسد، فدراما الجوع هي أقدم مسرح حافظ البشري على ارتياده بغرض الفرجة لا العون، وكان يلفتني بشكل خاص الأصوات المشتعلة من زقاق مظلم يحتله شحاذو شارع الكنيسة وما فلح تطفلي في مَدّي بشجاعة الاستطلاع.
كان يوم الأربعاء هو يوم موسيقى الجوع فأمام الجامع الكبير، كانتا تمهدان لسؤال المارة بسمفونية ثنائية تنافس تطابق ثنائي العاصمة في الصوت والإيقاع، ونصهم الوحيد والدّوار يقدمان من خلاله مانفسيتو الرحمة المرتجاة: (أرحم من يرحم..أرحم) وظني أنهما من الجماعات التي استقرت بطريق الحج، وانقطعت بهم إبل العودة فمكثوا في المدينة التي لا ترحم.
ملفتٌ صاحب الطبلية أمام الجامع والذي لا تفهم ماذا يبيع في هذا الوقت المتأخر من الليل، وكذلك إصراره على الاستماع لأغنية وحيدة تنطلق لتنتهي فتبدأ، وتنطلق من مذياعه المُجلّد بإحكام، وهي أغنية لعلها تتصل بتاريخ العشق الممنوع في بحري القديمة: “شتلوك وين يا العنب؟، زرعوك وين العنب؟ في جنينة البلدية!، أبداً لا، وطبعاً لا، الساعة ٦ العصرية؟ أبداً، لا، لكن وين؟”، وتراه يطرب أيما طرب وهو يعيد ترديد المقاطع ويستقر صوته أكثر في (أبداً لا،) وكأنه معنيٌ بالموعد لا الشاعر.
مسجد بحري العتيق بمآذنه التي تقطعان الفضاء أعلى السماء يقف فاصلة أنيقة بين كنيسة (مارا جرجس) بحلة حمد، وجيوب سوق بحري القديم والمندثرة ملامحه الآن، وبين المنطقتين تتوهط المحكمة، والثلاثة مظاهر للسلطة الروحية والوضعية، ولكن الذي يخلق التجانس تجاورهما في الخرطوم بحري، كيف لا، وهي المدينة التي تحترف الجمع بين المتناقضات، وإسباغ واحدية غير قهرية، كيف لا، وعلى بعد أمتار يقع جامع مولانا السيد علي الميرغني، وخلفه مقابر المحجوب، ولا غرابة أن تتعالى أصوات أقباط بحري وهم في متاجرهم يحلفون في بيعهم وشرائهم بحياة صاحب الضريح، وببركة مولانا السيد علي – إنه المسيح لا يعرف إلا المحبة..
المرقى الرابع: (الصعلكة أدب مقموع):
كان التحذير الذي نتسامعه باستمرار هو ألا نوغل في شارع مستشفى (بعشر) للأمراض العقلية في هذه الساعة من الليل المحفوظ في عُلبٍ مختومة بالمراقبة لسلوك المراهقين الصبية، وكأنهم لصوص يتوقى الحذر منهم باعتقالهم على سوء النية، فقد كان البحراوية العارفين بسر الليل يقولون بأن غفير المستشفى (عمك…) يقبل رشوة بعض النزلاء ليسمح لهم بالقفز من السور لشراء (النضيف) خلف مسجد السيد علي، (أمن تناقض أكبر من ذلك؟) وقد يكون حظكم الرديء أن تصادفوا مريضاً تم حبسه لأسباب قد تضر بمسيرتك كفحلٍ مستقبلي، ولذا كنا نشد الخطى متى وصلنا البوابة.
ومن محاذير ليل بحري إدعاء البطولة واختراق حي (…) في هذه الساعات المرحة من الليل، فهذا المكان له طبيعة برمائية، فهو شديد الرزانة نهاراً، وممتنعٌ عن الحكمة في المساء، ولكن والحق يقال إن هذا الحي أقل شقاوة من أخوانه في العاصمة، والسبب يعود لطبيعة الخرطوم بحري فهي تنفرد بكونها تراقب تهورها، وتقمع غرائزها بصورة لا تثير الانتباه..
ومن علامات البراءة فينا القفز من على سور البلدية لشرب الماء من (كولر) أثري- قيل أنه أحد آثار المسؤول الجديد طمعاً منه في إحداث طفرة إدارية في مؤسسته، والغريب أنه هو من أمر بخنق المدينة عبر تكسير ظلها بالقوة، وأقول براءتنا بسبب غفلتنا أن الدخول في هذا الوقت يحرك في العسكري الذي يحرس المبنى كل نوازع الشر تجاه المدنيين الفوضويين، وما كان لنا بعد أن نفهم كيف تقوم السلطة بحماية نفسها عبر منح امتياز العنف لأصغر تمثيل لها. لكن الحقيقة أن نومه كان ثقيلاً جداً، ولو حدث واستيقظ كان يكتفي بإرسال الشتائم لأولاد (الحرام) “المطلوقين وما عندهم أهل يلموهم”، وكانت الإساءة مؤلمة، وليته اكتفى بعصاه، ولعل ذلك مصداقاً لما تفنن العقل الشعبي في منحه الكلمات حقها: “الكلمة بتحوص” وبالفعل الكلمة أبقى في الألم.
في تلك الساعة وفي موقف الدروشاب تغط أكشاك الليمون في ثبات عظيم، فهي طول نهارات بحري الساخنة تتراقص عارضة بضاعتها من ليمون مسيخ، ينادي به تسجيل أشرخ دعوة للمواطنين لشرب ليمونهم المزيف، ورغم ذلك يظل طلب السابلة أكبر، وأمام هذه الأكشاك تتقدم عناقريب النوم باستقرار عجيب وكأنها سرية عسكرية تحرس بوابة المدينة.
وبالقرب من الموقف يقع مركز شباب بحري كثير النشاط حينها، لكنه الآن مباني متهالكة، وكنا حين نمر على مدخله الضيق تنادينا أصوات لكمنجة ساخنة، أو عود مشروخ، فهذا المكان كان صاحب فضل كبير في توفير أجمل الحناجر في المستقبل، هذا المركز الذي يُستَغل جزء منه لتفريغ البطون الملتهبة، كان يوماً عامراً بصلاح ابن البادية، ومحمد ميرغني، وبالتأكيد (الحوت)، لكنها أقدارنا أن تنزلق أنساق الجمال فينا إلى درك من البهيمية، ولا تسألن عن السبب، وحق تسميته الآن (مخزن) شباب بحري.
والمركز وقد اعتمدت واجهاته محلات لبيع الطعمية بالشطة نهاراً وفي المساء (الدردقو) بالشطة كذلك، بان لي بعد سنين أن أصحابها يعتنقون مذهباً رأسمالياً متطرفاً يميز بين الطبقات على أساس ساعة العودة إلى المنزل، فالعائدون في مثل هذه الساعات إما عمالاً أو سهّارة والاثنين لا يملكون من المال أكثر من ثمن حبة (تبش) معطونة في شطة مشكوكٌ في نسبها، وقد كنا..