المرقى الخامس: (التسليع ومسرح العبث):
أهو مظهر خادع؟ أعني أن تَرقُب حركة الناس في الشوارع وهم في صمت مقيم لا يكشف عن أية دوافع دفينة تجاه المكان والآخر، وهذه الطبيعة السكونية للأفراد هي التي شجعت الكثير أن يتوهموا في المجتمعات سلام غير مؤقت، ولكن الواقع أن لكل مجتمع رصيده من الشر المعنوي وإن كان معفياً من الظهور المطلق إلا أن لا أحد بإمكانه التنبوء بالأسرار التي يحملها كلٌ منا في داخله تُجاه ذاته والآخرين، وللحقيقة فإن للمدينة السودانية قاموسها من العصبية، وبحري ليست براء، فالشائع من الشتيمة بالتعييب الإثني في الخرطوم بحري وصف بعضهم بأنهم من (سكان المقابر، واللبيب يفهم)، وهذا عيب في التكوين رافق نشأة المدينة عندنا، فقد صنعها المستعمر على أساس عرقي، والخرطوم بحري نشأت على طابع عُمالي، وأحياؤها لم تخل من تركيب عرقي/أسري (الوابورات،الدناقلة، الميرغنية، حلة حمد وحلة خوجلي، الختمية، الشلالية..) ثم جاءت حكومة عبود وأنشأت (الشعبية)، واحتفظت طبقة الافندية أو من ترقى برافعة الاقتصاد السياسي بحي (الصافية). ولكن جيب بحري الحي ظل هو (شمبات) والتي يمت ساكنتها بالقربى لمحس حمد وخوجلي، وشمبات الحِلة حينما ضاقت بالغرباء لفظتهم ناحية الشرق أو ما عُرف بشمبات الأراضي، أما أزقة شمبات الحِلة فقط أغلقت على نفسها أبوابها المفتوحة معلنةً براءتها من التعالي على الذات، ولذلك ظلت تستمع وحيدةٍ بجناينها على النيل مانعةً أي أحد من مقاسمتهم ذاكرتهم الحرة، ولشمبات كتابة أخرى، قد تأتي. رغم ما قلناه حول تاريخ العصبية إلا أن الحقيقة تستوجب الإقرار بأن تخطيط بحري الراهن لا يؤمن بالعرق كثيراً، لكنه الداء الذي يستقر حتى في اللاوعي.
كان الناس “يقدلون” في سوق سعد قشرة، وترى مداخل السوق ضاجة بحركة البيع، وهمسات المارة يبحثون عن شرائهم غير المؤذي، وآخرين يمعنون النظر في الداخلي من ملابس النساء المعنفات بالتخفي، وهي المتعة الوحيدة التي لا يصلها سلطان الضبط الاجتماعي ومراقبو أسفل الجسد. وقد كان تدافع الناس في السوق ليس بغرض الشراء فقط، فقد نمت عندهم حاسة الاستهلاك وهو عرَض لما بات يعرف لاحقاً بشهوة التسوق في بلدان العالم الثالث، فرغم تواضع دخول الموظفين إلا أنهم الأكثر حضوراً في دهاليز السوق، وبالطبع لك دوافعه، فالبعض تحت ضغط الزوجة يخصص مبلغاً من مرتبه “لكيمونتهم” الضاربة في الإفصاح عن أغراض تكوينها، قلنا بفضل ضغطها يشتري ما يُمكن للعطار أن يصلحه، وآخرين دوافعهم شتى، لكن الملفت حقاً تجده عند بائعي العطور المستوردة، فالشابات من كل حدب وصوب يحفظن ماركات العطور دون القدرة على الوصول إلى اقتناءها، والسبب هو تراجع القوى الشرائية لا بسبب الفقر، بل بدافع من إفراغ الحاجة من مضمونها الحقيقي، وهذه هي وظيفة الإعلانات أن تشتري ما لا تحتاج إليه، وإن كان ذلك فوق طاقتك.
والمحلات على أطراف السوق تبيع أدوات التجميل بالقطاعي، أو ما أصطلح عليه حينها بـ(قدر ظروفك) بل انتشرت في الأحياء السكنية طبالي تشفي غليل الفتيات بنمط استهلاكي شرّه لكنه محدود، وكانت هذه إحدى مظاهر عولمة الجمال والتي تخترق الأطر الاجتماعية وتعيث فيها فساداً، فقد بات كل شيء قابل للتسليع، هذه الطبالي مخابيء لصنعة الجمال عند فتيات الحي طمعاً في الخروج من سلطة البيت إلى سلطة الجسد، فالفتاة في بيتها مقموعة لدواعي الجنس فهو هنا إثمها غير المعلن، أما في بيت زوجها فالجنس سلاحها للترقي والمساومة.
إذا اخترقت شارع سعد قشرة متجهاً إلى الشرق فيتوجب عليك الوقوف عند مواقع كانت مفتوحة لبيع المتعة في زمان سابق، ومن عجب أن يستقر عند البعض أن تجارة الجسد “مهنة”، مهنة وينبغي التقيد بشروط تسويقها والسبيل إلى ذلك الحفاظ عليها بتكويرها في مكان واحد، خوفاً من تسربها وسط الأحياؤ، وكأن الأحياء تسكنها ملائكة؟ وأن زبائن الحي ليسوا من مستهلكي هذه البضاعة، وهذه واحدة من أوهام المجتمع أو لنقل انخداعه بالظاهري من المعنى الاجتماعي، ومن عجب أن هذا المكان الذي عرفته أجساد مشدودة إلى وعي النزوات تحتله الآن سلسلة من مغالق!.
ومن عجب آخر أن لا أحد استطاع أن يجمع لنا تراث الغريزة هذا.. وهو تراث سليم النية طالما أن أصحابه كانوا يملكون خيارهم الخاص، وفوق هذا الغياب أُسدلت على بوابات الذاكرة الخفية للمجتمع في بحري الستينيات بوابات من التجريم بالآجل، صَبيةٌ هي الكتابة التي تبحث في المناطق المُجَرمة لأنها ذات صدق بالغ ولو رغماً عنها، وتذكرت أغنية (سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة) وهي من تراث البغاء في مصر القديمة حين يهزج النسوة القادمات من الكشف الطبي وقد نالوا إمداداً بالصلاحية لمزاولة أقدم مهنة في التاريخ، أما تاريخنا المعطوب بالطهرانية أضاع علينا فرصة الإصلاح من الداخل، وبتنا “نتشالق” طمعاً في عفةٍ لن تأتي طالما تخاف التوبة والاعتراف.
كان شارع المعونة وهي تسمية تعود إلى (المعونة الأمريكية) التي أشعلت المعارضة بقيادة الأزهري والشيخ علي عبد الرحمن أو (الشيخ الأحمر) وهي تسمية لرجل مُعَمّم لكن ميوله الاشتراكية فاقعة، هؤلاء كادوا أن يسقطوا حكومة الاميرالاي عبد الله خليل (بك) بآليات نصف ديموقراطية، فعاجلهم الرجل بإنقلاب (أبيض) بعد أن أخذ مباركة السيدين الطامعين في الجلوس على سدة الحكم ولو بلغوا من الكِبر عتيا، لكنها شهوة السلطة التي لا تعرف من قواعد الوقت وشروط المكان إلا الانسراب بقوة الرغبات لا قيد الوعي، قام الرجل بتسليم السلطة للجيش بالأمر، وعاد في عاجلة ليطالب بها فتم ترحيله مقيداً إلى المعتقل، ومن الواضح أن كل هذا الصراع بين العسكريين والمدنيين في تاريخ السودان يجسده الآن شارع المعونة.
كان من الممكن جداً أن يعيش الظل أطول في شارع المعونة لكنها أيدي مرتجفة قررت في لحظة غباء بيئي أن تقطع كل أشجار النيم بدعوى أنها مأوى للعطالة، وكأن صاحب هذا الاقتراح قام بتوفير فرص العمل لكل طالبٍ لها، ولم نخسر فقط الظل بهذه الأوامر الخرقاء بل فقدنا الكثير من تاريخ الأنُس والحكمة الملقاة على الشارع، وقد استقر عندي أن تاريخ الكلام عندنا تم اختراقه حتى يتجفف بالبكم الأعرج، فالسياسة التي لا تضع اعتباراً لجمال الكلام وتاريخ الأصوات تظل تجارة رخيصة الهدف، وغير قادرة على فهم الظاهرة التي تدير، كما أن حكمة المسؤول في السياسة السودانية تتجلى أكثر في أفعال عدمية، ومن النادر التفكير في غيرها.
لن أنسى ست الشاي (….) والتي حين عدتها بعد ١٠ سنوات بكت بسبب أنني كبرت بسرعة، وقد ذكرتني قول الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد ينعى شبابنا ونحن نخطو فيه (مضى ما مضى منك خيرا وشر – وظل الذي ظل طيَّ القدرْ – وأنت على كل ما يزدهيك كثير التبكي كثير الضجر – كأنك في خيمة الأربعين تخلِّع أوتادها للسفر)، إن هذه السيدة أبهى ما فيها قدرتها الغلابة على مقاومة (الكشة) وهو سلوك سلطوي يمتد من زمن الحاكم بأمر الله، والذي وبضغط من أرقه كان يتفنن في اختلاق الأذى على الحلقات الأضعف، كانت هذه السيدة عند كل مغيب تتحايل على عُمال البلدية وهم في زيهم المتجهم يردونها بالقانون الذي يظنون بسلامته فوق الحقيقة، والحق أن لا قانون جدير بالتنفيذ إذ خالف روح الإنسانية، والعجيب أيضاً أنهم وفي شدة احتفاظهم بالسلطة كانوا يُفرِجون عن أدواتها من السجن وكأنهم قبضوا على ابن العلقمي يفاوض هولاكو في اغتصاب بغداد واغتيال الخليفة، … “كانونها القديم ونصف دستة من الكبابي مع عُلب تحتفظ بالسكر والشاي والهبهان والزنجيل…” كانت هذه بضاعتها التي رأت سلطة تنظيم الشارع أنها أخطر من أسلحة السلطة في قمع الدم بالدم.
المرقى السادس: (التحرش بنبق أبوداود الفارسي):
عند شارع السوق ترقد المباني القديمة مرهقةً تتوكأ على بعضها مثل نسوة يتواثقن من أجل إتمام مراسم المناحة. ولسان الحال يهمس بتساؤل: كيف استطاع الخواجه أن يملك حساً مرهفاً تجاه المكان والناس؟ وعندما رفعتم رايتكم فكرتم في كل شيء إلا الروح؛ روحكم المتعبة، فقد ظلت نخبكم تصنع خطابها على قياس مشبوه ينادي بالديموقراطية دون أن يفهم شعبه، يبشر بمستقبل سعيد دون أن يسمح للواقع أن يستمر على وتيرة من تطور.
صحيح أن سوق بحري ليس بقِدم أسواق العاصمة الوطنية والخرطوم، لكن ما مازه العَمارة التي اختارت من البيئة ما يلائمها، ومن الواضح أن خواجه بحري كان المسؤول عن تخطيط المدينة (مستر سمسم) كان شاعراً، وذلك لأنه ترك للمدينة حرية ظلالها وأقام مبانيها تحت أشجارها تستظل في خضوع فاتحةً برنداتها للمارة في عشق مقيم..
كان السوق في ليل بحري هو المكان الأكثر حراكاً في هذه الساعات من الليل، إذ هو موعد استلام الخضار واللحوم والبدء في ترتيبها وفرزها حتى يشرق صباح بحري على خضار طازج وأنيق ومرتب بصورة مرغِمة على الشراء. المكان الوحيد الذي تحتله العتمة كان محل السمك والسبب أنه يستلم بضاعته من الموردة ويأتي بها إلى بحري بعد أن يطمئن لجودتها وملاءمتها ذوق البحراوية.
في ذلك الوقت لم يكن خور نصر الدين بهذه الكآبة بل تجده نظيفاً محرضاً على النزول فيه ولو لدوافع مختلقة، ولأن الخور مصنوع لأجل حماية المدينة من مراهقة المطر فإنه حين يدخل من السكة حديد متجهاً إلى الغرب يتسع أكثر كأنه يتنفس فيكون على يمينه الدناقلة شمال، وجنوبه الدناقلة كذلك، ولا فرق بين الاثنين.
بيت أبوداود والذي يتذكر معاصروه تشامخ حضوره، وهو الذي يُركب الغناء بتبتل وصوته يستعيد الجلال حتى الثمالة، كان أبو داوود حريصاً على تزويد طلاب المدارس المتحرشين بمنزله بكمشة من النبق الفارسي حتى لا يؤذون الشجر.
لا أعلم السر وراء هذه الكوكبة من المغنيين الذين اختاروا الخرطوم بحري سُكنى لهم، ولأننا من جيل النكسة الفنية فلذلك لم نقع على كثيرهم، وإن وقعنا على بدائلهم فجمال مصطفى الشهير بجمال فرفور وضع على عاتقه استثمار الحقيبة بصوته النحاسي، فقامت أجيال الفنانين الجدد تأكل من لسان شعراء الحقيبة مثل أبوصلاح وعتيق وعبد الله الأمي وغيرهم، وفي الوقت الذي سطع فيه “فرفور” كانت جيوب المقاومة مستمرة هناك على يد النور الجيلاني في رائعته التي كتبها من واقع عاشه وهي (فيفيان)، والجيلاني ليس مطرباً فقط فهو ملك المسرح، فلن تصمد مهما بلغ وقارك أمام دراميته على الخشبة. وأيضاً كان حي الختمية يفخر بمحمد ميرغني، وميرغني المعلم الوقور استمد عناصر مشروعه الغنائي من طرب غير غشوم، وفي صوته رقة وتأمل، والأستاذ كما يحلو لسكان بحري مناداته أقام مشروعه الفني على أسس من احترام للذائقة وتشذيب للطرب، حكى لي الكثير لاحقاً عندما زرته وهو رهين محبسه كطائر جليل الأجنحة لم تسكت عبقريته على التحليق وإن حوصر بضربات الزمن، ومن حكايات ميرغني ما يدفعك دفعاً للتفكر في مصائر مبدعينا، فهم أجمل ما يكونون عندنا إذ يقدموا لنا خدماتهم، ثم ينزوا بعيداً بفضل إهمالنا المقدس لكل ما هو جميل، ومن الغريب أن يكون حب السودانيين لمبدعيهم من النوع المؤذي، وهذا تناقض آخر في الشخصية. طرب ميرغني شاركه فيه صوت آخر رغم أنه لم ينل شهرة مثله خارج الخرطوم بحري وهو الفنان أيوب فارس صوت الحقيبة الممتاز.
الصبابي والتي عُرفت من زمن السلطنة الزرقاء أنها مصيف العبدلاب حُكام قَريّ والحلفايا، اكتفت بسكنى عبد الكريم عبد العزيز الكابلي، وكابلي هو الفنان الوحيد في نظري الذي استطاع أن يعيد تعريف وظيفة الفن في المجتمع، فالطرب ليس إلا آلية لبناء الثقة في ثقافة الشعب، ولمن يتتبع مسيرته يعرف كيف توّج الرجل مسيرته الإبداعية بتحسين وعي السميِعة ليطربوا عن يقين.
وفي شمبات كانت صباحات عيد الأضحى يحتلها الزحف الأكبر ليس من سكان شمبات في ميدان البشير فحسب بل من المزاد والشعبية بل حتى الحلفاية، لما لا وود اللمين في ندائه لصلاة العيد يحرك كل حي ليقيم الله في الأرض.. أه كل هذا التداعي وأنا لم أزل أتسكع بين شارع السوق والديم وميدان عقرب، وقارب الصباح على الإعلان..