(1)
نظمت لجنة إحياء ذكرى العالم والأكاديمي الراحل يوسف مختار الأمين (١٩٤٦ -٢٠٢١م) حفل احتفاء بمسيرته العلمية في نهار السبت الموافق ٥ نوفمبر ٢٠٢٢، بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم. واشتمل برنامج حفل على معرض لآثار الفقيد العلمية، وقراءات لبعض مساهماته الأكاديمية النيرة، وشهادات ومقالات مكتوبة عن مسيرته العامرة بالعطاء والانجاز، دونتها ثلة من طلابه وزملائه وأصدقائه. وكان لي شرف المساهمة بالمقالة المتواضعة أدناه “البروفيسور يوسف مختار الأمين: أستاذية درس وبحث”، وذلك بحكم أنني كنتُ أحد طلابه في السنة الأولى (1982/1983) بكلية الآداب، جامعة الخرطوم.
(2)
أذكر عندما قُبلتُ بكلية الآداب جامعة الخرطوم عام 1982/1983 كانت دُفعتنا أكبر دفعة في تاريخ الكلية، إذ بلغ عددها 181 طالبًا، كما أنها كانت الدفعة الأولى التي طُبِّق عليها نظام الوحدات الدراسية (Course-Unit System) عبر فصلين دراسيين في العام الأكاديمي بدلًا عن نظام السنة الدراسية الممتدة. وفي الفصل الدراسي الأول، درستُ خمسة مقررات إجبارية في اللغة العربية (A. 101)، واللغة الإنجليزية (E. 101)، والمهارات الدراسية (S.S. 101)، والإنسان وماضيه (Man and His Past, HIST 111)، ومشكلات فلسفية (Ph. 120) مقررًا اختياريًا، وكانت ثلاثة مقررات منها تُدرس باللغة الإنجليزية، ومقرران باللغة العربية (اللغة العربية والفلسفة). وفي السنة الثانية اخترتُ التاريخ تخصصًا رئيسًا وعلم النفس تخصصًا فرعيًا، بينما تنوعت التخصصات الرئيسة لزملائي في الدفعة بين اللغات (العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والروسية)، والجغرافيا، والآثار، والتاريخ، وعلم النفس، والفلسفة. ومن الأساتذة الذين جذبوا انتباه أعضاء المجموعة الذين درستُ معهم مقرر “الإنسان وماضيه” الدكتور يُوسُف مُخْتَار الأمين. ووقتها كان يُوسُف قد أكمل سنته الثالثة أستاذًا مساعدًا بشعبة الآثار، بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، وذلك بعد نيله درجة الدكتوراه في الآثار في جامعة كمبردج بالمملكة المتحدة عام 1979. وبالرغم من تواضع كسبنا المعرفي في المقرر الذي درسناها عليه؛ إلا أننا كنا معجبين بمخارج حروفه الإنجليزية، وطلاقة لسانه، ومعرفة الواسعة بمفردات المقرر. لكن بعد تلك السنة الدراسية، آثر يُوسُف الاغتراب، ملتحقًا بقسم الآثار بجامعة الملك سعود (1983-2016)، التي قضى فيها سنواته عمره الأكاديمية الحافلة بالعطاء والانجاز، والسمعة الطيبة التي غرس بذورها بين زملائه وطلابه، وينِعَت ثمارها في أروقة الاتحاد العام للآثاريين العرب.
وعندما كنتُ طالب دراسات عليا بجامعة بيرغن بالنرويج (1989-1998)، تجاذبتُ في لحظة صفاء أطراف الحديث مع صديقي العزيز المرحوم السيد الأنور عبد الماجد عثمان (البروفيسور)، الذي كان يزور جامعة بيرغن بانتظام، عن انطباعاتي الإيجابية اتجاه البروفيسور يُوسُف مُخْتَار. فأكَّد السيد الأنور صحة ما ذهبتُ إليه بحديث مطول عن سعة أستاذه يُوسُف المعرفية ومهاراته البحثية، بحكم أنه كان أحد طلبة الدفعة الثالثة النجباء (1973-1978)، الذين عاصروا يُوسُف في شعبة الآثار. ويبدو أنَّ السيد الأنور إلى جانب معرفته بقدرات يُوسُف النظرية في مجال تخصصه، قد رافقه في بعض رحلات التنقيب الأثرية، التي كانت تنظمها الشعبة بصفة دورية، ونذكر منها المسوحات الأثرية التي أجرتها الشعبة في موقع أم مرحي شمال أم درمان، وبعض المواقع الأثرية في شرق السُّودان في عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين.
تجدد الحديث عن يُوسُف مُخْتَار في النصف الثاني من الألفية الثالثة، عندما التقيت بطالبيه أولًا وزميليه لاحقًا البروفيسور عبد الناصر بن عبد الرحمن الزهراني والبروفيسور محمد بن عبد الرحمن بن راشد الثنيان في رحاب الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا في مارس 2008م، ووقتها كنتُ نائب العميد للدراسات العليا والبحث العلمي. وجاء الحديث عن يُوسُف في إطار إسهامات الأساتذة السُّودانيين في كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود. التجربة الرائدة التي وثَّق لها البروفيسور عبد الرحيم محمد خبير في مقال بعنوان “من حقيبة الذكريات: التجربة السُّودانية في العمل الآثاري بالمملكة العربية السعودية”. وهنا اقتبس مما كتبه خبير بنوع من التصرف في إطار حديثه عن نواة الأكاديميين والباحثين الآثاريين، التي غرس بذرتها البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله (أستاذ الدراسات السُّودانية والمصرية السابق بجامعة الخرطوم) بجامعة الملك سعود، عندما اشترك مع البروفيسور عبد الرحمن الطيب الأنصاري في تأسيس قسم الآثار بالجامعة نفسها عام 1978م، والذي أصبح تابعًا لكلية السياحة والآثار التي أُنشئت عام 2005. وبعد مرحلة التأسيس التحقت بالقسم نخبة متميزة من الأكاديميين السُّودانيين، شملت الأساتذة أحمد أبو القاسم الحسن (1980-2009) ويُوسُف مُخْتَار الأمين (1983-2016)، وعبد الرحيم محمد خبير (1983-2000)، والعباس سيد أحمد محمد علي زروق (1985-2005)، ومن طلابهم الذين التحقوا بكلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود في الألفية الثالثة البروفيسور أزهري مصطفى صادق (2012-حتى الآن) والبروفيسور السيد الأنور عبد الماجد عثمان، طيَّب الله ثراه، (2016-2017).
كانت تجربة يُوسُف بقسم الآثار بجامعة الملك سعود تجربة فريدة وجديدة في بعض جوانبها، تُشبه تجارب زملائه الآخرين الذين عملوا في المملكة العربية السعودية. أولها، أنَّ يُوسُف قد تدرب على نظام الوحدات البنائية (Building Units) الأوروبي في دراسة المسوحات والحفريات الأثرية، الذي يختلف عن نظام الظواهر (Loci System) الأمريكي، الذي كان ولا يزال سائدًا في المملكة العربية السعودية. ويرى خبير أنَّ هذه النقلة النوعية من نظام الوحدات البنائية إلى نظام الظواهر، قد منحت يُوسُف وزملائه من الآثاريين الفرصة لاكتساب “معرفة جديدة، لم تكن متوفرة لنظرائهم” في السُّودان، وكذلك الوسائط التقنية الحديثة المواكبة للتطور المتسارع في حقل الآثار، التي وفرتها جامعة الملك سعود. وثانيهما، إنَّ انتقال يُوسُف من العمل الميداني في السُّودان إلى المملكة العربية السعودية، قد كلَّفه جهدًا مضاعفًا لتطوير قراءاته النظرية وأدواته البحثية لتكون ملائمة مع البيئة الجديدة. ويتجلى ذلك في انتاجه المعرفي في مجال الدراسات النظرية والدراسات السعودية الأثرية، ونذكر منه: الإثنوآركيولوجيا: الدراسة الآثارية للثقافة المادية المعاصرة، الرياض دار القوافل للنشر والتوزيع، 2008؛ والحضارة العربية والاسلامية عبر العصور في المملكة العربية السعودية (تحرير مشترك: عبد الرحمن الانصاري)، الرياض: مؤسسة التراث، 2008، و”العصور الحجرية في المملكة العربية السعودية: دراسة تقويمية” مجلة أدوماتو، العدد 8، 2003، ص 7-40. وإلى جانب ذلك المسوحات والتنقيبات الأثرية التي أشرف على تنفيذها مع طلبة قسم الآثار والمتاحف بموقع الربذة الإسلامي شرق المدينة المنورة (1984-1989)، وموقع الثمامة الأثري شمال الرياض (2001-2003). ولذلك وصف خبير تجربة يُوسُف وزملائه في المملكة العربية السعودية بأنها تجربة “فريدة في نوعها”؛ لأنها أسهمت في “توسيع مداركهم المعرفية والثقافية في مجالهم المهني”، ووثقت عُرى ترابطهم “بأشِقائهم من الباحثين وعلماء الآثار العرب (مصر، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، والعراق)، الذين عملوا معهم بجامعة الملك سعود في الرياض”. وتُوج هذا العطاء باختيار يُوسُف أمينًا عامًا مساعدًا للاتحاد العام للآثاريين العرب- الذي يتخذ من القاهرة مقرًا له- منذ عام 1999. ولذلك نعاه الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب، بصفته كان أمينًا للمجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب، ورئيسًا لمجلس إدارة الهيئة السُّودانية للآثار والمتاحف، وصاحب مسيرة عطاء وسيرة طيبة، أفنى حياته في خدمة وطنه وأمته العربية.” وعلى النسق ذاته، جاء نعي الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير المكتب الإعلامي للمجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب، الذي وصف يُوسُف مُخْتَار بالعالم “الجليل”، الذي شغل العديد من المناصب المهمة، مثل عضوية لجنة خبراء الآثار بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)؛ وعضوية الفريق العلمي المكلف بإعداد وتجهيز المتحف الوطني بالرياض.
الهُوِّيَّة السُّودانية: محطة التقاءٍ ثانية
مثَّلت مشكلة الهُوِّيَّة السُّودانية المحطة الثانية التي جمعتني بأستاذي الجليل يُوسُف مُخْتَار الأمين؛ لأنني كنتُ مشغولًا بإعداد بحثٍ عن “الهُوِّيَّة والسُّودانية”، التي حظيت توصيفاتها باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والسياسية، وتنوعت أطروحاتها حسب المعطيات الثقافية والاجتماعية، ووفق المرجعيات الفكرية (أو الأيديولوجية) التي انطلقت منها، ثم تبلورت في شكل تمازجٍ، أو إلحاقٍ، أو استمرارٍ، أو تنوعٍ ثقافي وعرقي. ولفهم هذه الأطروحات والمسوغات التي انطلقت منها، والنتائج التي توصلت إليها، حاولتُ أن أسس إطارًا مفاهيميًا، يهدف إلى تفكيك تلك الأطروحات التي انتجها عقل النخبة السُّودانية بشأن توصيفات الهُوِّيَّة السُّودانية في النصف الثاني من القرن العشرين، وإبراز مسوغاتها الفكرية والشخصية، وأسباب نزاعها المصطلحي بين “العروبة” و”الزنوجة” أو التمازج بينهما. ومن الأبحاث التي أعانتني في بلورة مفهوم المصطلح وتحليل توصيفاته، بحث ليُوسُف بعنوان: “الموروث الثقافي السُّوداني: تحديات الوحدة الوطنية والانتماء الإقليمي”، وكان هدفه الأساس “الاقتراب من قضايا الوحدة الوطنية ومعوقاتها المتمثلة في الصراعات الإثنية والثقافية، وذلك من خلال مدخل الموروث الثقافي”. وأوضح المؤلف بأنه يقصد “بالموروث الثقافي كل المنتج الثقافي المادي وغير المادي منذ أقدم العصور وحتى الوقت الراهن، باعتبار أنه المحيط الذي فيه تشكلت الهُوِّيَّة السُّودانية، وفيه تتفاعل تحولاتها الدينامية.” اتفق يُوسُف في هذا البحث مع دعاة التمازج الثقافي والعرقي، الذين يعولون على “المكون الثقافي والعرقي الموضوعي المعطى على أرض الواقع بكل تجلياته وتعيناته المتعددة والمتشابكة” التي وصفها فرانسيس دينق بالمكونات الموضوعية، وأطلق عبد المنعم عجب الفيَّا على النتائج المترتبة عليها “القراءة المعرفية”. وبناءً على هذا المدخل الثقافي ومعطياته الموضوعيَّة خلص يُوسُف والذين شاركهم الرأي بأن الهُوِّيَّة السُّودانية نتاج تمازج، أو تركيب ينشد التوافق بين الثقافات والانتماءات العرقية المختلفة في السُّودان. وبهذا المدخل الثقافي استبعد يُوسُف أدبيات الأنساب الواصفة لذوات رواتها، بحجة أنها تصوير ذهني أكثر من أنها انعكاس مباشر لمفردات الواقع المادي. لذلك رفض فكرة أصل المنشأ البيولوجي التي دفعت فرانسيس دينق إلى وصف المرويات النسبية بعدم الموضوعية (subjective)، وكذلك عجب الفيَّا الذي نعت القراءة الناتجة من هذا المكون بالقراءة “الأيديولوجية”، محتجًا بأنها لا تنطلق مما هو كائن فعلًا في توصيفها للهُويَّة، “بل مما يجب أن يكون. لا من الواقع المتشكل على الأرض، بل من الرغبة في إعادة تشكل الواقع؛ لذلك فهي تعمد في مقاربتها لسؤال الهُوِّيَّة إلى الانتقاء والنفي والغربلة لمكونات الواقع الثقافية والعرقية حتى تتلاءم مع رغبتها الأحادية في تشكل هذا الواقع.” وفي المقابل رفض بعض الباحثين فرضية التمازج العرقي والثقافي القائمة على “المصادر الموضوعية”، ومال حدسهم إلى اصطحاب أدبيات الأنساب في رسم الصورة الكلية للهوية السودانية، وبذلك أسسوا لجدلٍ معرفيٍ واسعٍ. أسهم في إبراز عملية انتقاء المصادر، وتفضيلها، وترجيحها في بناء توصيفات الهُوِّيَّة السُّودانية، فضلًا عن اختلافات المناهج البحثية التي استندت إليها توصيفات الباحثين. ولذلك نلحظ أن البروفيسور عبد الله علي إبراهيم قد عضد رأي البروفيسورة وندي جميس (Wendy James)، التي نبهت إلى مخاطر الاحتفاء المطلق بمفردات الحضارة-الثقافة المادية، واللسانيات، والطقوس، توهمًا بأنها مصادر موضوعية، مع استبعاد الأنساب المروية من المكون المصدري لتوصيفات الهُوِّيَّة، تعللًا بأنها اصطناع ثقافي يفتقر إلى الجانب العلمي. ولذلك يُثمِّن عبد الله استثمار الجماعة لميراثها الثقافي؛ لتعزيز صورتها الاثنية وتحسينها في مقابل الآخر، ويعتبر ذلك تصورًا مقبولًا في الفقه الاثنوغرافي المعاصر، بل من وجهة نظره أنه يشكل مصدرًا مهمًا من مصادر توصيف الهُوِّيَّة. وبناءً على ذلك ينتقد عبد الله عملية مغالطة أهل الأنساب في أنسابهم، ومحاكمتها بمفردات الواقع الثقافية المحيطة. ويبدو لي أنَّ عبد الله محقٌ في ما ذهب إليه على المستوى الأدنى (المحلي)، المرتبط بتوصيف الهويات حسب روايات أصحابها؛ لأنها بالنسبة لهم تشكل جزءًا من فضاء واقعهم الثقافي، وبعدًا ديناميًا مهمًا في حسابات صراعاتهم المحلية، وتشكيلات حراكهم الداخلي؛ لكنها عندما تنتقل من دائرة التوصيفات المحلية للهويات إلى دائرة البناء الوطني والهُوِّيَّة الجماعية يجب أن تؤسس معايير إدارة التنوع الثقافي، كما يرى يُوسُف مُخْتَار، وفق قواسم مشتركة وقيم موضوعية ناظمة لخصوصيات الهُويَّات المختلفة في إطار الوحدة القُطرية.
لا يحصر يُوسُف مُخْتَار المدخل الثقافي في توصيف الهُوِّيَّة السُّودانية، بل يتعدى ذلك إلى إعادة “قراءة التاريخ الثقافي بكامل عصوره، … مقرونًا بمشروع الأبحاث الحقلية المستمرة … في تلك الأقاليم التي ليس لها تاريخ مدوّن”، ومستندًا إلى “المعلومات التي توفرها الآثار، والمصادر التاريخية”، بحجة أنها “المصدر الأساسي الذي يكشف لنا مستويات الاتصال والتأثير بين مختلف الاثنيات والأعراف في البلاد”، وبموجب ذلك تتم عملية “إبراز المشترك بينها، الذي يدعم أواصر الوحدة الثقافية، ويعترف بالتنوع والخصوصية في الوقت نفسه”. ولتأمين هذه المرتكزات لإعادة قراءة التاريخ الثقافي للسودان، يرى يُوسُف أن القرارات السياسية لا تكفي لوحدها، بل يجب أن تستند إلى سياسات مدروسة، تكون غايتها تحقيق الوحدة الوطنية وإدارة التنوع في السُّودان. لكن للأسف كان القرار السياسي في أروقة الحكم في السُّودان أعلى صوتًا على السياسات المدروسة التي غابت عن المشهد العام، ونتج عن ذلك استقلال جنوب السُّودان عام 2011، وحالة الأزمة التي يعيشها السُّودانيون اليوم.
التحكيم الخارجي: محطة التقاءٍ ثالثة
بعد أن أصدرت البروفيسور انتصار الزين صغيرون، وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي السابقة، قرارًا بتعيين البروفيسور يُوسُف مُخْتَار الأمين مديرًا مكلفًا لجامعة أفريقيا العالمية، كتبتُ إليه رسالة تهنئة بالمنصب الجديد، جاءت في صدر دعوة رسمية أن يكون محكمًا خارجيًا لتقييم ملف ترقية لرتبة الأستاذية في الآثار والتاريخ القديم؛ لأحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة قطر. وجاء نصّ الرسالة المؤرخة في 26 فبراير 2020 كالآتي:
“أستاذي الفاضل الدكتور يُوسُف مُخْتَار الأمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
اسمح لي أولًا أن أهنئك على منصبك الجديد مديرًا لجامعة إفريقيا العالمية، فأنت أهل للمنصب ومكسب للجامعة والتعليم العالي في السُّودان.
أفيدك بأنني بصدد ترشيح اسمكم لتقييم ملف ترقية إلى رتبة الأستاذية، فإذا كان وقتكم يسمح بذلك، فيسرني أرفع اسمكم مع قائمة المحكمين الخارجيين المرشحين إلى إدارة الجامعة. وأرجو أيضًا مدي بتفاصيل عنوان بريدكم الإلكتروني ورقم الهاتف، لقد حصلت على سيرتكم الذاتية من جامعة الملك سعود.
مع فائق الشكر والتقدير
أحمد إبراهيم أبوشوك”
وبعد يومين من تاريخ الرسالة أعلاه، جاء ردَّ يُوسُف كما يلي: “الأخ العزيز بروف أحمد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أشكرك كثيرًا على التواصل والتهنئة … وعلى الجلوس على “الصاج” الساخن كما تعلم. ساعدونا بدعواتكم، [إنها] مهمة صعبة. لا مانع لدي من وضع اسمي في القائمة المذكورة وسوف أرسل لك سيرة ذاتية حديثة إن رأيت ذلك. تقبل شكري وتقديري. يُوسُف مُخْتَار الأمين.”
وبتاريخ 19 أبريل 2020، كتب إليَّ رسالة أخرى، جاء فيها: “الأخ العزيز بروفسير أحمد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اتمني أن تكونوا بخير وعافية في هذه الظروف الصعبة. اسألك إن جاز ليَّ السؤال عن نيتكم المستقبلية بالعودة للوطن؟ وأعلم أنه سؤال صعب. أخوك يُوسُف مُخْتَار الأـمين”. وبعد فترة من تسلم هذه الرسالة، تواصلت مع أستاذنا البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، ودار حديث بيننا عن جامعة أفريقيا العالمية وإدارة يُوسُف للجامعة، وأسرَّ ليَّ حسن أحمد إبراهيم بأن يُوسُف كان يرغب في انضمامي للعمل بجامعة أفريقيا إذا قررت العودة إلى السُّودان.
جاء ردي على رسالة يُوسُف أعلاه بتاريخ 1 مايو 2020، كما يلي:
“أستاذي الفاضل الدكتور يُوسُف مُخْتَار،
لك التحية والتقدير،
اهنئكم بحلول هذا الشهر الكريم، وآمل أن يعود عليكم وعلى السُّودان بالخير والبركات، في ظل هذه الظروف الصعبة التي فرضها انتشار فيروس كورونا.
عودًا إلى سؤالكم الكريم، ربما تطول إقامتي في الخارج نسبة لبعض الظروف الأسرية، ومن بينها تعليم ابنتي (لينة وميادة) في الخارج، وكذلك ترتيب مستلزمات العودة إلى السُّودان، كما تعلم. هذه مرئيات الخطة المستقبلية، لكن الأمر مرتبط في نهاية المطاف بظروف العمل في جامعة قطر.
في الختام لك خالص تحيتي ومودتي، وسلامي للأسرة الكريمة، وآمل أن تكون الأمور تسير على ما يرام بجامعة أفريقيا العالمية في ظل الظروف المعقدة في السُّودان والتحديات الكثيرة.
وكل عام وأنتم بخير.
أحمد إبراهيم أبوشوك”.
كانت هذه آخر رسائلي مع أستاذي الجليل يُوسُف مُخْتَار الأمين، وكما أوضحت أنها قد انطلقت من دعوة رسمية لتقييم ملف ترقية إلى رتبة الأستاذية في مجال الآثار والتاريخ القديم، ثم قادتنا إلى الحديث عن تعيينه مديرًا لجامعة أفريقيا العالمية؛ إلا أن يُوسُف لم يمكث طويلًا في الجامعة، بحكم أنه كان إنسانًا شفيفًا وعفيفًا، ومهنيًا مؤمنًا بالقيم الحاكمة للمؤسسات الأكاديمية، ولا يهاب في قول الحق لومة لائمٍ. والدليل على ذلك تقديم استقالته عن إدارة الجامعة في 25 أغسطس 2020، محتجًا على أداء لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 الفرعية بالجامعة، التي وصف أدائها بعدم المهنية والتجني على حقوق بعض المنتسبين إلى الجامعة، الأمر الذي وقف عائقًا أمام الرؤية التي وضعها لإصلاح الجامعة، وفق مبادرات وخطط مدروسة، كان الهدف منها الارتقاء بوظائف الجامعة الثلاث، القائمةً على التدريس، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع.
خاتمة
في إحدى محادثاتي الهاتفية مع البروفيسور حسن أحمد إبراهيم علمت أنَّ يُوسُف مُخْتَار قد أصيب بداء الفيروس التاجي (كورونا) اللعين، فدعوت له بالشفاء العاجل. قبل أن يستجاب لدعائي ولأَكُفِّ الآخرين من زملائه وطلابه المرفوعة إلى عنان السماء تضرعًا له بالشفاء والعافية، عاجلنا نعيه المؤلم من زميله البروفيسور عبد الرحيم محمد خبير في صفحته على الفيسبوك في يوم الأحد الموافق 24 أكتوبر 2021، أي في ظهر اليوم الذي أعقب اليوم الذي توفي يُوسُف في ساعةٍ متأخرةٍ من ليله الدامس. وجاء نص نعي خبير هكذا: “انعي بحزن بالغ رحيل عالم الآثار البروفيسور يُوسُف مُخْتَار الأمين، المدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية، الذي عرفته أستاذًا مجيدًا، وزميلًا محبوبًا بشوشًا، نهلنا من علمه الثر ونحن الدفع الأولى التي تتلمذت على الفقيد بقسم الآثار بجامعة الخرطوم في السبعينيات الماضية. فقد كان طيب المعشر، وسمح السجايا، وحفيًا بأهله وزملائه وطلابه ومعارفه. ولقد كنت دائم التواصل معه. إذ اتصل عليَّ هاتفيًا قبل أسبوع مهنئًا شخصي … بمناسبة صدور كتابي الموسوم بـ”من تاريخ السُّودان الحضاري: شواهد أثرية وتاريخية”، الدار العالمية للنشر والتوزيع بالقاهرة [2021].” أرسلتُ هذا النعي إلى البروفيسور عبد الناصر بن عبد الرحمن الزهراني، العميد الأسبق لكلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود، فردَّ عليَّ واصفًا يُوسُف بأنه “كان رجلًا عظيمًا، عالمًا لا يشق له غبار، صاحب مبدأ، وله فضل كبير علينا في قسم الآثار في الجامعة، عرفته منذ أن قدم إلى السعودية وحتى غادرها… رحمه الله، وغفر له، واسكنه جناته.” رحم الله العالم يُوسُف مُخْتَار الأمين رحمة واسعة بقدر ما قدم للتعليم والتعلم، وبقدر ما أعطى للبحث العلمي والمجتمع، فهو أستاذنا لا نُعزِّي فيه؛ ولكنه فيه نُعزَّى.
ahmedabushouk62@hotmail.com