توطئة لجيلنا الجديد .. يعد آل دياب بدري ونحن من جهتي أبي وأمي عائلة ممتدة فجدي خيري أحمد اقترن بآمنة دياب وتزوج عبد الخالق دياب عمتي ليبة محمدين وارتبط بدري دياب بخالتي رقية نوري فيما تزوج جدنا الشيخ الورع عثمان دياب حبوبتي حسون سليمان.
هذا فضلا عن علائق سابقة ولاحقة.
التحق عمنا دياب إدريس بسلاح الحدود في مصر مبكرا وخدم في المناطق المحاددة ليبيا وعلى البحر الأحمر حيث خاض الأهوال خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956 المتمثل في بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ردا على تأميم عبد الناصر قناة السويس. وعن هذا صاغ شاعرنا تاج السر الحسن وترنم الكابلي:
.. والقنال الحر يجري في دمائي ..
أحضر دياب في إحدى إجازاته تربيزتي شاي معدنيتين لوالدي من حلفا وكانتا هدية نوعية وقتها.
وحين كتبت له رغبتي في عود لتعلم الموسيقى وأنا فتى غرير جاء به وهو يحمله كطفل رضيع في القطار المصري ثم الباخرة وأخيرا من وادي حلفا على اللواري فكان معتادا استجابته لكل عشم وبذا صرت ثاني من يمتلك عودا بعد موسيقار المحس الأول محمد أبوشنب أحد أعمدة أوركسترا الإذاعة الأبكار خريج معهد القرش الذي رشحه العميد أحمد المصطفى للإذاعة لبراعته’ وبه علمني صديقي زهر الدين محيي الدين ( توندي ) الموظف بمكتب بريد دلقو بدءا عزف لحن أغنية الوسيم ال قلبي رادو الطروب.
عاد دياب من مصر واستقر في البلد فترة تولى خلالها قيادة لوري يعود لوالدنا إبراهيم عثمان بين الخرطوم والبلد وعرف خلاله بالأمانة والنزاهة وخدمة الناس.
بعد حين استقر في الخرطوم وكان أول من قطن من حلتنا في بلاد الحاج يوسف ببيته الملك وعمل سائقا بمستشفى العيون
غير أنه سرعان ما سافر لجدة بعقد عمل وخلاله صادف حادث مرور مروعا وسارع بإنسانيته العالية يسعف ويلتقط الأشلاء وحين بث التلفزيون الحدث كان بارزا في المشهد حيث نال ثناء المسؤولين.
لم يطل به المقام في الاغتراب الثاني فعاد وتابع عمله بسيارة أجرة يمتلكها وكان يتردد على دكان صالح محمد عمر ( أردوان) المعروف في بحري وكان بينهما ثقة ومودة وكذا على مطعم منى الشهير لصاحبه الوجيه عبد الجبار عبد المجيد ( تنرى ) حيث ربطته عرى الود بعديدين التمسوا فيه الصدق والأمانة خاصة بأهلنا شمالي المحس ارتقت لمصاهرة بارتباط العزيز اسماعيل محمد إبراهيم بكريمته الكبيرة. ومن فرط الموثوقية كان كثير من المغتربين يودعونه جوازات سفرهم ويسافرون للشمالية وعند عودتهم يجدونه قد أكمل ترتيبات سفرهم من تأشيرات وحجز ويذهب بهم للمطار بسيارته مودعا.
اشتهر مرحلتئذ بجانب مطعم منى مطعم الخيام الذي لايزال في الخدمة وهما من أملاك المحس في بحري التي شيد فيها العمارة الأولى الوجيه علي عيد ولاغرو فالمحس حين مقدمهم للعاصمة نزل فوجهم الأول في الصبابي بحري قبل نحو 5 قرون بحسبان أن بدء استقرارهم كان في مستهل القرن السادس عشر.
كان بيت دياب مقصدنا جميعا .. المغترب والطالب والمريض الباحث عن علاج وكل يجد فيه راحته .. فهو الباذخ في الكرم الذي لا يملأ عينه طعام إن لم يشبع جلساءه ويفيض وكانت زوجته بنت عمته وخاله ست النساء اسما ومعنى غاية في الطيبة وحسن الضيافة’ وبمنطوق المثل ” مرة والحريم ورا “. وفي غرفة الضيوف بالداخل فضلا عن الصالون الرحب الٱسرة نظيفة مرتبة وعلى الجدار جوال قنديلة فاخرة مفتوح لمن يشاء.
ولأنه ” دوغري ” أحبه جيراننا البطاحين وبذا تبنى شراء قطع سكنية عديدة لأهلنا بأسعار تفضيلية.
كان دياب ” زول واجب ” فحين توفي والدي وجهت أسرتي من الرياض ليسافروا للبلد مباشرة لكنه فور سماعه الخبر مشى لهم معزيا وقال إنه من الضرورة تنظيم فراش بالخرطوم قبل السفر فلا يعقل ألا يفرش رجل مثل حاجنتود هنا وهذا لقب والدي تيمنا بأحد آجداده وقال إنه ذاهب لإحضار الخضراوات والمطلوبات من السوق وعندما حدثوني بذلك قلت:
إنه كبيرنا وولي أمرنا وقراره ينفذ.
من مواقفه بعد انفضاض المشيعين بعد دفن أحد أعمامنا الذي كان قد قدم للعلاج من البلد قال لولده بصراحته المعهودة:
كل هذا الحشد جاء إكراما لوالدك فأنت محدود المجاملات ولو سرت في هذا الطريق لن تجد الناس حولك.
هكذا كان يجاهر ولا يغتاب شأن بعض أهل زماننا الأغبر الذين ينطبق عليهم المثل:
في الوش حبايب وفي القفا دبايب
كان دياب وجيها وسيما في بشرته صفرة وأنيقا في ملبسه ومظهره يتميز بكاريزما لافتة’ مع تبسط ضاحك في ساعات الصفاء وحزم عند الاقتضاء .. يتوخى النظام في بيته فكل فرد يرتب سريره فور استيقاظه وكل من يستحم يخدم نفسه و” ينقف” ماء استحمامه من الحوض دون إيكاله للبنات. وعندما يهم بالخروج صباحا يسرع الأولاد بفتح الباب الكبير على مصراعيه لسيارته وكذا عند عودته وإطلاق ” البوري” دون إبطاء.
كان بعض الصبية يعطلون سريان عداد الكهرباء أياما لخفض التكلفة قبل تطبيق ” الجمرة الخبيثة ” وحين سمع بذلك حذر أولاده وقال إنه إن لاحظ ذلك سيبلغ موظف قراءة العداد فور وصوله فلم يحاولوا قط لعلمهم أنه إذا قال فعل.
جئت الخرطوم من عطبرة ذات مرة وكنت وأخي علي نصر ” مشكيلة ” بصدد جمع مساهمات لبناء نادي المحس بعطبرة من إخوتنا تجار الإسبيرات تحديدا لوضعهم الميسور وما توانوا لكنه مد لي مساهمته دون أن أفاتحه فقد كان سباقا.
خلال مرضه الأخير وقد امتد علاجه بعثنا نحن أولاد الأسرة بمساهمة كشأن المغتربين حيال أهلهم وكان هو في طليعتهم بشهامته إبان اغترابه لكنه عاتبني فقلت له:
لو أرسلنا إليك كل رواتبنا لا نستطيع أن نوفيك خدماتك ونسدي جمائلك.
فقال:
لا تعتقد أن المحبة التي بيننا حصرية بنا فهي ممتدة من كبارنا وصدق.
بعد أيام من ذاك الاتصال مضى دياب القدوة في موكب الراحلين تاركا فراغا لا يسد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم …
ومن روائع أبو فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم* وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر