الصورة شائهة، وكل شيء يوشك على الإنهيار، فالخدمات الصحية في الحضيض والأمراض تفتك بالناس في العاصمة وفي أطراف المدن، والحالة الأمنية في سيولة مروعة، والضرائب والجبايات أرهقت الجميع حتى أصبحت الإضطرابات وإغلاق المتاجر منظراً مألوفاً ومعتاداً، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان عصر التركية الأولى، والغلاء يطحن الجميع حتى أصبحت الرواتب والأجور لا تكفي لأكثر من أسبوعين في الشهر، وكل صباح يعلن قطاع من القطاعات الخدمية التوقف عن العمل وأخر هذه القطاعات هيئة توفير المياة وسبقتها إدارة الكهرباء فيما يواصل أطباء الإمتياز اضرابهم مع تردي الخدمات الصحية في المستشفيات والمشافي والمراكز الصحية.
الإنهيار لم يتوقف عند حدود الهيئات الخدمية بل إمتد إلى المؤسسات العدلية والقضائية حيث باتت القرارات السالبة تنهال على النقابات والإتحادات على عكس اتجاه القرارات التي اتخذتها لجنة إزالة التمكين واسترجاع الأموال المنهوبة.
بات الناس غير أمنين في بيوتهم وفي الشوارع العامة حيث غابت الشرطة عن دورها الأساسي والجوهري وهو تأمين سلامة الناس والحفاظ على ممتلكاتهم.
الإنهيار بات واضحاً وجلياً للعيان، وفي الوقت الذي أعلن فيه رئيس مجلس السيادة القطيعة مع حركه الأخوان المسلمين وعضوية المؤتمر الوطني المحلول يجري في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد إحلال العناصر الإسلامية وفلول النظام البائد في مفاصل الدولة وسط تهديدات متبادلة بين الطرفين العسكري والإسلامي.
ويتجسد الإنهيار في انسداد السبل التي تؤدي إلى تشكيل حكومة مدنية كاملة الدسم و دمج الحركات المسلحة والدعم السريع في جيش واحد تحت عقيدة قتالية واحدة والإبتعاد عن الساحة السياسية كما تعهد الرئيس البرهان ونائبه حميدتي، وباتت الوثيقة الدستورية التي صاغتها بمهنية عالية النقابة التيسيرية للمحامين والتي تحظى بقبول واسع من قوى الثورة ولجان المقاومة والعديد من الأحزاب السياسية والقوى الإقليمية والدولية.
باتت هذه الوثيقة التي وصفتها في مقال سابق بأنها “طوق النجاة الأخير” لإخراج السودان من النفق المظلم الذي يراوح فيه، باتت في مهب الريح وسط المزايدات الحزبية.
الإنهيار هو العنوان الذي يعيشه السودان منذ 25 اكتوبر 2021، حيث لا دولة ولا رئيس للوزراء ولا حكومة من التكنوقراط لإستكمال ما تبقى من المرحلة الإنتقالية ويمكن بمنتهى البساطة أن توصف الدولة السودانية بالدولة الفاشلة بكل المقاييس.
لعل الأحداث التي شهدتها نقابة المحامين تقف شاهداً صارخاً على ضياع مقدرات الوطن وحقوقه حيث عذنا إلى عهد البلطجة واستخدام القوة وعودة الوجوة المحروقة والتي توارت منذ اندلاع الثورة إلى الظهور الصارخ والفج “ربيع عبدالعاطي نموذجاً” … وتم تلك الفوضى والتصرفات اللا مسؤولة تحت سمع وبصر السلطات الأمنية التي انسحبت لتترك الساحة لفلول الإنقاذ ليعربدوا كيفما يشاءون بل أن بعضهم كان يستخدم “البمبان” والقنابل الصوتية التي يجب أن تكون حكراً على قوات الأمن.
هذا على الصعيد العام والأمثلة كثيرة ومتعددة ومنتشرة في كل انحاء السودان وما أحداث النيل الأزرق ببعيدة عن الأذهان بعد أن وثقت بالصوت والصورة والجثث تملأ الشوارع وقاعات المستشفيات المتهالكة وحتى ساحات المدارس التي لجأ إليها الأهالي كمأوى مؤقت لم تسلم من الموت المجاني والصراع العبتي … أما على الصعيد الخاص فيؤلمني ما تشهده ولاية شمال كردفان وعاصمتها الأبيض من تردي مريع في الخدمات الصحية بعد أن باتت ” حمى الصنك” تحصد الجميع ولا تستثني أحداً سواءاً من الصغار أو الكبار من النساء أو الرجال حتى باتت أرقام من رحلوا بسبب الحمى القاتلة في تصاعد مستمر والقادرون هربوا إلى العاصمة بحثاً عن علاج.
زارني في المنزل مساء الإربعاء مجموعة من الشباب الذين قلبهم على البلد وعلى سلامة أهلهم وتحدثوا معي عن أن الوضع الصحي في ولاية شمال كردفان دخل مرحلة الخطورة وأصبح حرجاً جداً بسبب اجتياح وباء “حمى الضنك” لولاية شمال كردفان ومحليات شيكان وأم روابا وغرب بارا بشكل أخص.
وقالوا أنهم يطلقون نداء استغاثه عاجلة لكل العالم بأن الحوجة عاجلة جداً لماكينات رش يدوي وماكينات الرش الضبابي ومبيد الرش الضبابي وناموسيات وكمامات ومحاليل وريدية للصغار والكبار كل 12 ساعة إلى جانب أدوية البندول ودربات الملح والسكر والمضادات الحيوية ومحاليل وريدية ومستهلكات طبية بأنواعها المختلفة.
هذا النداء هو صرخة الأهل الذين يحاصرهم المرض ويعجز عن توفير العلاج الناجع لهذا الداء الذي ينتشر وسيشمل مناطق عديدة خاصة وأن منطقة شمال دارفور وثماني ولايات آخرى باتت ضحية لهذا الوباء مايعني أن الإنتشار سيكون كبيراً ومميتاً.
وأضم صوتي لهؤلاء الشباب وأناشد جمعية قطر الخيرية ذات الأيادي البيضاء على أهلنا في السودان والهلال الاحمر القطري أن يكونوا خير معين لمواجهة هذا الوباء، ونسأل الله أن يحفظ الجميع وأن يسبغ عليهم ثوب الصحة والعافية ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.