اسمه ياسر سليمان ، 21 عاما ، أحد تروس هذه الثورة العظيمة . مثله مثل غيره من الأبطال ظل يفدي حلم شعبه في الحرية والعدالة والسلام، فما تأخر عن موكب ، ولا تخاذل عن نزال أو تلكأ عند مواجهة مع عصابات العسعس المجرمة .
بذل كل شئ الي ان أتت رصاصة جبانة فغدرت به ومزقت أحشاؤه . إستقرت الرصاصة مابين كبد ياسر وكليته ونفثت سموم بارودها في جسده النحيل ، ففتكت بالمعدة وما جاورها من الاعضاء والانسجة .
لسوء حظي فان علاقتي بهذا الترس الجسور لا تتعدي كونه أحد أفراد صفحة أصدقائي في الفيسبوك ، ولسوء حظي ايضا ، فان اعتبارات المكان جعلت علاقتنا ايضا بلا تواصل جسدي ، فبدأت إفتراضيا وتسمّرت في عالم الاسافير .
معلوماتي عن هذا الجسور استقيتها قبل قليل من بطاقة البروفايل الخاصة به . فقد كان ميلاده في 20 يناير 1993 في مدينة نيالا الباسلة ، وجدان ثورتنا ، وتتلمذ في مدرستها الثانوية وهو الان من سكان مدينة امدرمان .
قصتي مع مأساة الصنديد ياسر بدأت اليوم عندما فتحت صفحتي في الفيسبوك ، فقفزت رسالة كدّرت عليّ ما تبقي من ظهيرة هذا السبت .
وللحق ، فقد هالني ما قرأت وإستبد بي الخوف والغضب ، في آن !
كتب الشاب في صفحته رسالة وداع مختصرة قال فيها مانصه “قرار صعب لكني اتخذته تعبت …تعبت . إنا لله وإنا اليه راجعون ” هكذا ختم معزيا الناس في رحيله العجول !!!
( قبل قليل اختفت هذه التغريدة من الصفحة ! )
فما أن قرأت ما دوّنه هذا الشاب المكلوم والمثخن بالجراح ، حتي انصرفت اتصفح بوستاته القديمة ، فوجدت الثورة بكل عنفوانها وألقها ووجدت تدوينا يوميا للمواكب وكل ما يتصل بها .
هرعت الي الماسينجر في الفيسبوك وظلت عليه قائما بلا جدوي ! أعدت المحاولة بضعة مرات يسبقني الأمل وفي كل مرة رن جرس الماسنجر حتي إنقطع ، ويعود الامل يلح علي في المعاودة للحاق بياسر قبل ان ينفذ حكم إعدامه لنفسه ، ويستمر الرنين بلا اجابة فألعن حظي اذ لا اتوفر علي رقم هاتف يوصلني به ويختصر هذه الكارثة الزاحفة .لابد انكم تدركون أهمية التواصل الجسماني او الصوتي مع ” مريض ” الغيبوبة النفسية المؤقتة وفقدانه التام لشهية الحياة . فالتواصل في مثل هذا الظرف الحالك ، برأي الاختصاصيين النفسيين ، هو حبل الانتشال الوحيد من ظلمات التفكير المأزوم الذي يصوّر عتمة القبر كدرب النجاة من المأساة المطبقة الي بر السلامة. فالتفكير المأساوي إن إستبد بصاحبه أنكر عليه ، من الجهة المقابلة ، جدوي الحياة وفتح النار علي متعها وكل ما فيها من إشراق وبهاء . وبالنتيجة ، فإن المُستلب يفاضل خياراته بلا رشد ، فيغادره الوجل ويركل الإكتراث بقيمه الروحية ومايدور في أفلاك الإيمان كالقبول والرضي بالاقدار فيغدو غير هيّاب من إفتراس نفسه بيده .
أعرف ان غالبكم سيرجف قلبه ويتعوذ من فكرة الانتحار التي سكنت إبننا ياسر ، بيد ان المأمول الان ، والمطلوب منا جميعا ، أينما كنا ، ان نفتح ملف هذه المأساة ونتباصر بشأنها . ولتكن البداية العملية هي التواصل الفوري مع إبننا ياسر كفرد يحتاج لعلاج آني ومستعجل ، وفي ذات الوقت يلزمنا أن نتحدث عن ياسر “كظاهرة” نفسية عامة غير مرئية ، ومتكاثرة . فياسر الفرد وياسر الظاهرة العامة ، بحاجة الي جلسات علاجية طبية ونفسية يعاني منها عشرات المئات من ضحايا المواكب . تحليليا، يهمنا نعترف بان ياسر سليمان ليس حالة إستثنائية لشاب فقد الامل وتعب من المعاناة .
فلا خير في ثورة يسقط ابناؤها في دمائهم ، فننصرف عن برك تلك الدماء الطاهرة غير آبهين ، أو يفتت الرصاص احشاؤهم فنضن بواجب توفير الدواء والرعاية والدعم لهم !
لا خير في ثورة ينتهي امر أبطالها بالتشييع الي المقابر ، او تصبح معاناة من يكابدون جراحهم ، مجرد حكايات نرويها ، او ان يصبح امر من يكتون بإصاباتهم الجسدية البائنة أو النفسية الخفية قصص نتناقلها في سرادقات المآتم !
aamin@journalist.com