هناك تسابق محموم باسم الوطنية والدفاع عن الحقوق من أجل إغراق البلد في الدم.إذ ظللنا نطالع وجوهاً كالحة عبر وسائل الإعلام تدعي الدفاع عن المهمشين، وتتوعد “الخرطوم”، ومعها الشريط النيلي بهدم العمارات على رؤوس ساكنيها، لتصبح مرتعاً “للكدايس”.
ووجدنا من يلقي شعراً، كل بيت فيه ترد فيه كلمة الدم مرات ومرات، وهناك من يسجل ويصغي له بإعجاب، ووجه “الشاعر الدموي” كأنه “فردة حذاء”، وهو يقبض (بهستريا) يديه كأنه يعصر من يعنيهم عصراً، كما الذباب.
وقد كانت اتفاقية جوبا مدخلاً لكل من يستلفون لسان المهمشين، إذ اشتملت على مسارات الشمال والوسط والشرق، وكان ممثلوها من أرزقية الساسة، الذين زعموا نضالاً كاذباً، وادعوا تمثيل أقاليم لا صلة لهم بها، غير انتماء مشكوك فيه.
وأدَّى تراخي الدولة إلى تفاقم الظاهرة حتى تفاجأ العالم وليس أهل السودان فحسب بالإعلان عن جيش متمرد باسم الشمال والوسط يُعلن عنه في مؤتمر صحفي مشهود، وتحت أضواء ساطعة من قلب الخرطوم، وعلى رأس هذا التمرد من كان يتحدث بلسان القوات المسلحة؛ لكونه المتحدث الرسمي.
أعلن اللواء (م) الصوارمي خالد عن تدشين قوات “كيان الوطن”، بحجة “عمل توازن عسكري للولايات التي كونت لها قوات مقاتلة تمكنت عبرها على استلام مناصب عليا بالدولة”، قائلاً: “إن الوسط والشمال لم يتم منحهم اي مناصب للقيادة والوزارات لأنهم لم يكونوا قوات أسوة بحركات دارفور”.
والأسئلة: من أنت أيها الصوارمي لتتحدث باسم الشمال والوسط؟ وأين الأجهزة الأمنية التي تطارد الثوار، وتطلق عليهم النار ليسقطوا شهداء في كل يوم؟ وهل غابت عنها خطوة الصوارمي ورفاقه، وهي التي لا بد تتطلبت اجتماعات تنسيقية، وحلقات نقاش، وتواصلاً محموماً بين عدد كبير من متقاعدين في القوات المسلحة؟
إن ما قام الصوارمي يدل دلالة واضحة على فقدان الحس الأمني لرجل كان متحدثاً باسم قوات الشعب المسلحة؛ لأنه ليس هناك عاقل يمكن أن يدعي تمثيل الملايين، ويعلن الحرابة باسمهم، ويزيد النار اشتعالاً في بلد يمكن أن تنفجر فيه الأوضاع في لحظة.
وهذا العمل وسيلة لإعادة إنتاج النظام البائد، بتكوين قوات بدعوى الدفاع عن القوات المسلحة، وهو بالتأكيد يعبر عن سذاجة مفرطة، ويدل على عقلية من كانوا يحكمون السودان طيلة 30 عاماً.
ولعل هذه الفانتازيا، وهي في لغة أهل الدراما “تناول الواقع الحياتي من رؤية غير مألوفة”، لعلها تؤكد أننا نعيش في السودان “عالم اللامعقول”، ودليلي خطاب البرهان الذي جعل “الكلبة الوالدة” مثلاً لبرهنة عدم قبول الجيش التدخل في شأنه.
هذا الخطاب أكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه مهما كانت هناك تسوية بين العسكر والمدنيين، فإن العسكر لن يرضوا هيكلة الأجهزة الأمنية، ومأسسة قطاعها الاقتصادي، بل سيكون للجيش علاقاته الخارجية بعيداً من الحكومة المدنية، كما أنه سيتدخل (ينقلب) لتصحيح الأوضاع إذا حاد المدنيون عن جادة الطريق، الذي سيرسمه العسكريون.
وهذا يعني أن التسوية ما هي إلا حكم مدني بوصاية عسكرية، كأنك يا أبو زيد ما غزيت.