وعلى سبيل المثال، فإن مصر قبل الثورة والتي صورها لنا نجيب محفوظ هي مزيج من حقيقة مصر النسبية ورؤى وتصورات وذكريات نجيب محفوظ، هي جماع الحقيقة والذات المبدعة في وحدة واحدة ، لذلك هي تختلف تماما عن مصر التي صورها ألبير قصيري في قصصه ولم ير فيها سوى المطحونين والمهمشين المقضي عليهم بالانسحاق، وهنا كانت مصر مزيجا من الحقيقة النسبية ومن التكوين الذاتي للفنان، على حين سنرى صورة مختلفة لدي عبد الرحمن الشرقاوي في روايته الأرض حيث تتجلى مصر التي تقاوم وتنتفض وترفع رأسها ثائرة. هذا لأن الفن مزيج من تكوين الكاتب والحقيقة، من تفاعل الذات مع الواقع. وربما كتب أحدهم رواية مثل الحرب والسلام لصاحبها تولستوي، ولو أن كاتبا آخر كتب نفس الأحداث لخرجت لنا رواية أخرى، بحقيقة أخرى لأن الكاتب وتكوينه ورؤاه مختلف، ولأن الاكتشافات الفنية لا تكتمل إلا في ارتباط وثيق بطبيعة المبدع الفكرية والشعورية. وإذا كان الفنانون مبدعين، فإن العلماء أيضا مبدعون من نوع آخر، وإلا ما قال أينتشين إن: ” الخيال أهم من المعرفة أحيانا”. العلماء مبدعون على طريقتهم التي تختلف عن طرق الفنانين، ولنقل على سبيل المثال إن نيوتن كان مبدعا حين اكتشف القانون القائل بأن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، لكن تكوين نيوتن الذاتي الشخصي لا يؤثر في طبيعة ذلك القانون، ولا يغير القانون سواء أكان نيوتن إنسانا مرهفا أو قاسيا، صلبا أو لينا، ذلك أن التكوين الذاتي للعالم لا يمس الحقيقة ولا يبدلها. وفي اختلاف المجرى الابداعي عند العلماء والفنانين يكمن الفارق الجذري بين المبدعين، حتى أن عالما شهيرا هو إيفان بافلوف الحائز على نوبل قسم الناس إلى ” مفكرين ومبدعين”، على أساس أن المبدعين من المفكرين يتسمون بالتفكير المنطقي، والمبدعين من الفنانين يتسمون بخواص نفسية أخرى في استقبال العالم وإعادة إنتاجه. الحقائق التي يتناولها الكتاب قد تتغير حتى أثناء عملهم، ولهذا قال بوشكين : ” لقد خدعتني تاتيانا وتزوجت” يقصد أنه فوجيء أثناء الكتابة بغير ما خطط له، أما في العلم فإن الحقيقة تبقى كما هي كامنة لا تتغير إلى أن يكتشفها عالم آخر، ويقول لنا إن الأجسام الصلبة تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة. الفارق الرئيسي بين مجالي الابداع يكمن في اختلاف النهج الابداعي عند الفنانين عنه عند العلماء، إلا أن الطرفين يلتقيان في أنهما يكتشفان القوانين العامة، العلماء يضعون أياديهم على قوانين الطبيعة ، والفنانون يضعون أياديهم على قوانين الروح والعلاقات الانسانية. سيتوصل العلماء إلى أن كل تغير كمي يؤدي إلى تغير نوعي، وهذا قانون عام، وسيكتشف الأدب بقلم دوستويفسكي أن الكراهية تنبع من نفس منطقة المحبة في الروح الانسانية، ولهذا استعان عالم النفس فرويد بالكثير من القوانين العامة التي اكتشفها دوستويفسكي، وحين يكتب تشيخوف قصة” البدين والنحيف” فإنه يقدم لنا قانونا عاما مفاده أن مأساة المجتمع ليست في قوة الأثرياء وبطشهم بل هي أيضا في ضعف الخانعين واستسلامهم، وهذا أيضا قانون عام يقدمه الأدب، مثلما يقدم العلم القانون القائل بأن حاصل ضرب أي عدد موجب مع أي عدد سالب يكون سالبا. يكتشف الفن والعلم القوانين العامة التي تحكم الطبيعة والنفس البشرية، لكن كل بطريقته، وعبر مجرى إبداعي خاص به، وإذا كنا في العلم بحاجة إلى الوعي، فإننا في الفن بحاجة إلى الوعي واللاوعي، مما يجعل من الفن حصيلة جمع إحساس الكاتب والواقع، جمع رؤى الفنان الفكرية والحقيقة.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري