“لابد من نثرٍ إلهي لينتصر الرسولُ” – محمود درويش
هذا ورغم الدُفوع من قِبل مثقفين عرب تريد التخلص من مسألة الهوية، تارة بتصويرها مشكلة زائفةً لا تنتمي إلى حيز المشكلات الواقعية، وأخرى اتهام المشتغلين بأنهم عُبثاء ليس إلا، والحق فإن الناظر في جوهر هذه الدفوع يقع على صدق مقولتهم وتهافتها في آن واحد، فالقول بأنها مشكلة زائفة ينطلق من تصور هذه النخبة لطبيعة المشكلة وتعريفها، فيظنون بأن أهم تجلي لصدق وجود مشكلة هو حضورها اليومي والاعتيادي والوصفي في جملة الظاهرة الاجتماعية، والغريب أنهم لا يبحثون ملياً في التعريفات الاجتماعية والفلسفية لماهية المشكلة، وما فيها من حضور اجتماعي أو تفشي سياسي، فالمشكلة لغة هي: “شَكَلَ الأمر يشكُل شَكلاً أي ألتبس الأمر” – بطرس البستاني : محيط المحيط- ص 477، و”المشكل اسم فاعل من الإشكال وهو الداخل في أشكاله وأمثاله، والمشكل ما لا ينال المراد منه إلا بالتأمل بعد الطلب (التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون- ص 786). هذا لغةً ما يعني أن شرط فهم المشكلات هو التأمل بعد الطلب، والطلبُ هنا يفيد الوقوف لأجل الإلمام بكافة الجوانب المتعلقة بالظاهرة، وبذا فالقول بأنها مشكلة زائفة يقف ضد المعنى الحقيقي للمشكلة، فالحكم بزيفها يفيد الوصول إلى نتيجة بعد البحث والتقصي، لكن حقيقة الذي يجري أنها محاولة هروب من أسئلة الهوية بإنكار وجود الهوية ذاتها كمسألة.
إن أقرب توصيف لهذه المسألة أنها “مُعضلة- Dilemma” وهي تلك الحالة التي لا نستطيع فيها تقديم شيء، وهي تفيد معنى التأرجح بين موقفين بحيث يصعب ترجيح أحدهما على الآخر، وهذا هو جوهر المشكلة الفلسفية، فطبيعتها أنها مرواغة أكثر، ويصعب الكشف عنها بداهة دون الدخول في تفكيك جدلها والتعبير عن ذلك يحدث عند التخلص من حالة الإنكار والاستعداد لمواجهة مظاهرها المتحايلة.
والقصص كثيرة في كتب الرمل كما يقول الفيتوري حول العدو الكامن فينا، عدونا هو البحث الدائم من إنسان العصر ليعطن نفسه في مزيدٍ من الغباوة، كأن الأمر عبادة للعنف، وصلاة غير واثقة لآلهة ماتت قبل أن تلدها الحقيقة، فلن يجد قُراء تاريخ العالم الجديد إلا سلسلةً مجانيةً من الموت لا لشيء سوى أوهام القوة والنضال المُر في سبيل الانتصار لا لأحد بل للمقولات، وهاهنا نقع على سرديات فائقة الدقة ومتينة، منسوجة بشكل آخاذ تحكي قصص عن بطولات غبية لإنسان القرن العشرين، فكل الذي فعله هتلر أنه فضّل الخوض في الأذى المقدس عند نيتشه بعد موته، والحق أن فردريك نيتشه لم يكن عنصرياً أبداً، لكنه مهّد لوهم تفوق الإنسان الأبيض (الجرماني) على وجه الخصوص على بقية الكائنات الحية في العالم الكبير، وكل الذين قتلهم هتلر وموسوليني ليسوا بشيء لو نظرنا فيما فعلت النخب ببلادها، إن الأذى الذي ركَّبته عقول النخب البيضاء بالإنابة كان هو مصدر إزعاج دائم لإنسان الشرق، فنخبته حاولت الدخول بالقوة إلى مجال حضاري لا تملك له سبيلا، وقصة “مانتو” هي صراع للهوية، فلا نقع على معنى أصيل وجدي وجدير بالتوقف لجرح الهوية مثل ما قامت عليه تجربة الأديب الهنديٌ المولدِ، باكستانيٌ الوفاة، سعادت حسن مانتو، إن تجربة مانتو المولود في الحادي عشر من مايو عام 1912م في البنجاب الهندية، والمتوفي في لاهور بباكستان في الثامن عشر من يناير عام 1955م هي التعبير الأصدق عن شرخ الهوية وانفصام الذات، هذا الانفصام الذي أودى بحياة مانتو بعد تدهور صحته مدمناً للكحول والتي باتت ملاذه الأخير، بعد أن فقد الأمل في العودة إلى الهند التي انتزع منها انتزاعاً بفضل أسباب واهية تدور حول اختلاف العقيدة والتراث، وكم هي فاشلة التحليلات التي تذهب بأن الدين سببٌ من أسباب التدهور الحضاري، فالحقيقة أن أي دوغما (Dogmatic) هي مصدر للشقاء، فالتعصب للرأي والانغلاق في الأيديولوجيا بابٌ أبدي الدخول لكل منتميٍ لحزب كان أو جماعة أو حتى إلى مزاجه الخاص، لماذا؟ ببساطة لأن الانغلاق سجن للوعي وتدمير للذات؛ الذات التي ينبغي لها أن تتغذى على غيرها من الأفكار والأحلام بل حتى الترهات، لكنها متى ما ظنت في نفسه كمالاً وخلاصاً يمنعها الاتصال بالآخر فإنها بذلك حفرت لنفسها قبواً مظلماً تعترك فيه الأشكال الدينية والاجتماعية والاقتصادية من وعيها المهترئ، والحق أن كل شخص يرتب وعيه على أسس من نهايات وخلاصات يفقد بذلك الحق بأن يكون مالكاً لنفسه دع عنك استطاعته الدخول إلى نادي الإنسانية.
قصة مانتو.. والهند التي أغتيلت بيد نخبتها:
في الخامس عشر من أغسطس عام 1947م كان كل هندي يضع يده اليمنى على قلبه مردداً نشيد (جانا كانا مانا) خلف العظيم رابندرانات طاغور، ولعله لم يكن يعلم أنه يغني لنفسه أكثر. يقول: “أنت يا صانع مصير الهند، اسمك يتردد فى قلوب البنجاب، والسند، وغوجارات، وماراثا، ومن دارفيدا وأوريسا والبنغال، يتردد صداه إلى تلال فانداهياز وجبال الهيمالايا، ممتزجاً بموسيقى يامونا والغانج”.
كلهم حتى “مانتو” كان يفعل ذلك دون أن يدري بأن لا حق له في ترتيل نشيد بلاده في القريب، وأنه ليس بالشعر وحده تبنى الشعوب، فالأقوى من اللغة هذيان النخب.
إن الصدمة كانت كبيرة على مانتو، وهو يسافر بالقوة من مدينته التي تعرفه ويعرفها “بومباي” والتي حقق فيها شهرة واسعة ومكانة أدبية لامعة، وحينما لم تكن مسألة إسلامه في وسط هندوسي تشغله أو تلقي بتبعاتها على وضعه الاجتماعي، حتى بعد انفصال الباكستان عن الهند سنة 1947م والذي أُفتتح بالمجزرة التي شهدت هجرات عكسية من الهند مسلموها إلى باكستان، ومن باكستان السيخُ والهندوس إلى الهند، فبعد عام واحد وتحت ضغط الخوف في إُثر تفجر الأوضاع الطائفية بين الهنود بسبب الدين، خرج مانتو إلى لاهور وهو الذي كان قد قرر البقاء في الهند حتى بعد انفصال الباكستان، وهناك لم تتركه متاعبه فتهمة الفحُش لا زالت تلاحقه والتي دارت حول قصته (اللحم البارد) حين قرر رجل العصابات وهو عاجز أمام رهان زوجته على حظها من جسده، أنها لا يستطيع، لكنها أضمرت قتله وجرحته بالفعل، ليعترف لها بأنه عاشر فتاة ميتة.
مانتو وهو في سن الحادي والعشرين يلتقي بالرجل الذي سيغير حياته إلى الأبد وهو عبد الباري علي – الكاتب والمترجم والذي سانده وقدم إليه أعمال مترجمة عن الروسية والفرنسية ساهمت في صقل موهبته، وأعماله الأعظم (شذرات النار – 1936م- قصص مانتو – 1940م- نهاية الملوكية – 1950م- خلف الستائر – 1953م).
ظل الرجل في الهند حديث النقاد على عكس باكستان التي لم تر فيه سوى تهديداً لأخلاق الأمة عبر الكتابة والترويج للعُهر حسب رأي رجال الدين هناك، ومانتو هو الكاتب الأكبر انتاجاً للقصة القصيرة حينذاك، كانت قضيته الأساسية هي النكبات الاجتماعية التي أصابت الهنود جراء تقسيم قارتهم إلى عدة دول.
انتهى مانتو كحولياً ليصاب بتليف الكبد ويتوفى في الثاني والأربعون من عمره بعد حياة مضطربة تألم فيها الرجل كثيراً لفراقه وطنه الهند، ولما آلت إليه بلاده بفعل التقسيم. ولا زالت مقولته تتردد في الهند قبل هجرته التي قتلته، يقول: “هنا يوجد سعدات حسن مانتو وفي قلبه الفن وسر القصة. إنه مستلق تحت طن من الأرض يتساءل دائماً من هو السيد؟”.
ghassanworld@gmail.com