فيما نتابع تطورات المواجهات الدائرة في إيران بين النظام وشعبه ، تستوقفنا بعض تطورات تعكسها تصريحات لمسئولين إيرانيين ، لا تبدو متسقة كلّ الاتساق مع ما تعودنا أن نسمعه من بعض قادتهم، طيلة سنواتهم الطويلة في الحكم هناك.
أولها تصريح صدر عن وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران، حول انتفاضة الايرانيين المتصاعدة إثر مقتل فتاةعشرينية بأيدي شرطة الإرشاد الأخلاقي الإيرانية، ينتقص فيه من تلك الانتفاضة. لكن الوزير الايراني عبداللهيان، آثر أن ينوه ويذكر بصورة استفزازية، خلت من الحصافة والدبلوماسية ، قائلا إن إيران ليست مثل السودان أو ليبيا .
التطور الثاني يتصل باحتجاج السفارة الايرانية ، على ما وصفته بتقاعس الأمن البريطاني عن حماية مقرهم الدبلوماسي في لندن، وهو أمر له خلفيات ينبغي أن تستعاد.
(2)
يستنتج من تصريح الوزير الايراني أنه يتهم ضمناً ، جهات خارجية بتحريض النساء الايرانيات للإنتفاض ضد النظام القائم في بلاده . ومن حقه كمسئول عن علاقات بلاده الخارجية، أن يزعم ما يزعم، حقاً أم باطلاً، عن جهات خارجية تتآمر على نظام الحكم في بلاده. إلا أن ما زاد على ذلك وهو ذكره بلدين لا علاقة لهما بما يدور في بلاده ، وهما السودان وليبيا، في مقاربة استفزازية تستهين- ليس بنظامي البلدين أيا كانت توجهاتهما- بل تتعداهما للإساءة إلى الشعبين في السودان وليبيا.
إن انتفاضة السودانيين لم تكن هبة عشوائية بلا مبرّرات ، إذ شهد العالم أجمع كيف أبدع الشباب السوداني في غضبة شعبية حملتها القطارات ، واحتشدت فيها الشوارع بجموع الغاضبين من شبيبة السودانيين على نظامٍ ظالمٍ . لك أن تتصوّر كيف استجدى رأس ذلك النظام الباطش، الفتاوى من بعض فقهاء نظامه والتي قـد تجيز له إهدار دم ثلثي شعبه لينعم هو والثلث الباقي بالحياة والبقاء في كرسي السلطة الباغية .
(3)
رأى العالم فتاة سودانية سمّوها أيقونة الثورة ، تلهم جموع النساء قبل جموع الرجال للخروج لاسقاط نظام استبدادي، بتظاهرات سلمية فيواجههم زبانيته بالهرّاوات ومسيّل الدموع وبزخات الرصاص الحيوالمتشظي، ولكن في النهاية سقط الذي طغى. . إن الدماء النبيلة من صدور الشباب الذين استشهدوا في الخرطوم، وفي العديد من مدن السودان، فأسقطت نظام الانقاذ ، لم تقع في عين عبداللهيان ، لكن رآها الشعب الايراني ولربما استلهم انتفاضته منها. وإن الشعوب تلهم بعضها بعضا لكون رقض الظلم والطغيان فطرة في البشر. نعجب أن تعشى عيون مسئولي ايران عن انتفاضة تقودها نساء بلادهم ، وتتصاعد تحت أبصارهم، من سوء أفعالهم وصلفهم فيهربون لاتهام عناصر خارجية تحرض وتتربّص . . إن كانت السخرية من الحكومات جائزة فتـلـك من مناكفات السياسة في العلاقات بين حكومة وأخرى ، أما السخرية من الشعوب فتلك جريرة قد لا تغتفر وتستهجنها الشعوب ، إذ هي الفتنة تسعى لاشاعة الضغائن بين بني البشر. إن الشعوب هي الأبقى والحكام إلى زوال، إلا إن أراد الخالق زوال الجميع.
(4)
أما عن احتجاج السفارة الإيرانية في لندن، ومزاعمها أن السلطات البريطانية لم تقم باللازم لقمع المحتجين من الإيرانيين ومن معهم من المتعاطفين في مقاومة الظلم، فذلك أمر يعيدنا لتاريخ قديم للنظام الايراني الحالي في بؤس احترامه للتقاليد الدبلوماسية . لقد لترشيد علاقات الدول عبر ممثليها المعتمدين، توافق المجتمع الدولي على اتفاقيتين، أولاهما لتنظيم العلاقات الدبلوماسية لعام 1961م، والثانية لتنظيم العلاقات القنصلية لعام 1963م. لكن شهد العالم كيف اجتاح طلاب النظام الايراني السفارة الأمريكية في تهران في نوفمبر من عام 1979م ، واستولوا عليها ، ثم احتجزوا عدداً معتبراً من دبلوماسييها رهائن لأربعمائة وأربع وأربعين يوما . تم ذلك تحت بصر حكومة الثورة الاسلامية التي حرضت شبابها لاحتلال السفارة الأمريكية واحتجزوا الموظفين البلوماسيين واستولوا على وثائقها ثم أحالوها متحفا مفتوحا بعد أن سموها “وكر التجسس”. أحد قادة أولئك الطلاب ، صار دبلوماسيا بعد ذلك وتدرّج ليصير سفيرا في دمشق، ثم وكيلا لوزارة الخارجية الايرانية أواسط العقد الأول من القرن الجديد.
(5)
لعل المسئول الايراني الذي استهجن ما أسماه تقاعس الأمن البريطاني عن حماية سفارته في لندن من المحتجين من بني جلدته، أن يتذكر كيف كان تصرف حكومة بلاده الاسلامية أواخر سبعينات القرن الماضي مع رهائن السفارة الأمريكية في تهران. لكأن ديننا الحنيف لم يحض على حماية الرسل والمبعوثين. وله أن يقارن ذلك التصرف القديم المذموم، بالتصرف اللاحق في هذه السنوات الماثلة . هنا نشهد أجيالاً غير أجيال ذلك الزمان ، وظروفا غير ظروف ذلك الزمان .
إنّ أساليب الاستبداد الرقمي في مواجهة احتجاجات النساء في ايران ، والتي صارت انتفاضة آخذة في الاتساع، هي – لمن يمعن النظر- ممّا استلهمه النظام الايراني من تجارب الاستبداد الرقمي الذي مارسه بعض الطغاة في أنحاء العالم. لم يكن طغاة السودان استثناءا في مواجهة تظاهرات احتجاج الشباب هناك، إذ واجه الشباب المنتفض في الخرطوم، صنوفاً من ممارسات الطغاة في قفلهم مسارات الجسور بالحاويات الحديدية ، وقطع الإنترنت تماماً ، بل والغاء شبكات التواصل بالهواتف الجوّالة أحياناً، والاكتفاء بالتواصل عبر الشبكة الأرضية .
ومن فطرة أنظمة الطغيان أن تتعاون لحماية مظاهر طغيانها. ولعلّ ذلك ما يفسر سخرية المسئول الإيراني من انتفاضة الثائرين من شباب السّودان، في قوله إن ايران ليست هي السّـودان، بما يضمر تواطئاً من قبلهم ، درجوا عليه منذ سنوات علاقاتهم المريبة بنظام الطاغية البشير. ولا حاجة لنذكّر بمن أوعز إلى نظامه، وبأساليب ماكرة، إستضافة رموز جلبتْ للسودان سمعة رعاية الإرهاب الدولي. ولقد تناهى إلى أسماعنا ما جاء من مخابرات غربية وأخرى أمريكية ، تحدّث عمّن دفع بن لادن والذئب كارلوس للاختفاء لسنوات في السودان.
(6)
لعلّ شعب السودان يعجب ممّن لا يرى فارقاً بين نظام استبدادي باطش ، وشعب ينتفض لينعم بالحرية والعدالة والسلام، فيبلغ به تبخيس انتفاضة الجيل الطالع في السودان ، فيلمح إلى أن حراكه هو محض تحريضٍ من قوى استخباراتية أجنبية. من البداهة القول إنّ أحدَ وجوه انتفاضات الشعوب عموماً، هو الضيق من طول مكث أنظمة الطغيان في حكمها، فلا يرى قادتها الممسكون السلطة والجالسون لعشرات السنين في كراسيها ، سـوآتها ولا مفاسدها. تلك قيادات هرمتْ، وقد هرمنا معها – كما قال ذلك الشيخ التونسي- ولم يعد بمقدورنا ولا بمقدور شبابنا ، تحمّل عجزها عن الاستجابة لمطلوبات جيل من غير جيلهم ، ولطموحات شباب تفتحت أذهانه وعبر ثورات التواصل، على النظر إلى العالم من حولهم بغير نظرتهم . جيل الثورة الإيرانية الذي كان شعاره قبل خمسين عاما “مَرك بَر أمريكا” (الموت لأمريكا)، قد فارق زمانه الآن ، فلا الولايات المتحدة ولا ايران ، هما الان على حالهما الذي كانا عليه في سبعينات القرن الماضي.
لك أن تنظر الى فريق ايران الرياضي في مونديال 2022، في احتجاجهم الصامت أمام نشيدهم القومي، على قمع الانتفاضة في بلادهم. من كان منهم يجرؤ لفعل ذلك ، لولا أن الأمر وعلى بساطته، بدا ملمحاً لوجهٍ من صراع قادم بين جيلٍ غابر وجيلٍ حاضر.
(7)
إنّ تقييم ثورات التغيير الي وقعت خلال الربيع العربي، بأنها آلتْ إلى فشلٍ بائن، أو غيّبتها موجات طغيانٍ متجدّد، لهو تبسيط يجافى واقعاً آخذ اً في التحوّل التاريخي ، ويغفل إغفالا رغبوياً عند ذلك الجيل المتشبّث، أنّ أجيالاً قادمة ربما لا تزال في رحم الغيب ، ستحدث التغييرات ضربة لازب. إنّ النهوض والأفول سُـنة من سنن التاريخ ، تستوي في ذلك الشعوب هنا أو هناك ، في السودان أو في ليبيا أو في ايران أو سواهم.