في أواسط الستينيات عندما أنشئ مشروع سعدنكورتى شمال الزراعي التعاوني شمال دلقو تطلب الأمر استنفار الناس أياما عدة لرفع الجدول الرئيس ثم الفرعين المتجهين شمالا وجنوبا فرأى كبارنا أن يجهز الطعام والشراب في بيت جدي لتوسطه الحلة وقربه الجغرافي.
كان كل سكان بيوتنا ال 30 وقتذاك يفرغونها ( ثم تضاعفت مثنى وثلاث ورباع ).. الرجال والشباب في النفير بعد ذبح خروف وتقطيعه .. النساء في
التكل بين من يعسن الكسرة بنوعيها ذرة وقمح والقراريص ومن يتولين الملاح وملحقاته لوجبتي الفطور والغداء. أما البنات فعليهن جلب الماء من البحر وملء البراميل والأزيار فيما يغوص الصغار في لعب الكرة بالخارج ويكلفون بإحضار الماء والشاي للمنهمكين في العمل المضني.
كل ذلك يجري في انسيابية وحبور وأنس لطيف متناغم.
تصوروا مشهد حلة كاملة في بيت وعظمته!
سقت هذا مثالا لروح التساند والتداخل والحميمية في قرانا وريفنا الرائع على امتداده.
ومثل هذا الجمال يحدث في كل مناسبات الكره والفرح في بيئة تضج بالحسن:
عشقوا الجمال الزائف المجلوبا
وعشقت فيك جمالك الموهوبا
حمل القرويون في أعماقهم هذا الإرث العظيم حيث حلوا بعيدا في الداخل والخارج فولدت جمعية صاي الخيرية بالقاهرة قبل قرن وتبعتها جمعياتنا بمصر فالخليج ثم عبرت المحيطات لكل القارات تآلفا وتكاملا وتعاضدا. وطبقا لهذه الخلفية الحميمة فإن السوداني أينما حل في الدول الأخرى يبحث عن السودانيين فبينهم يحس بالأمان والحماية المجتمعية ويتبدد شبح الهوان والتوهان في ” الغربة البطالة ” كما تعبر أغنية ” دار أم بادر يا حليلها “.
في الخرطوم ظل الناس معا في السراء والضراء بحرص بالغ وإحساس بتلقائية الوحدة وضرورتها وامتد التآزر للتشارك في المناسبات في مراتع الصبا
فعندها يأتي ناس الخرطوم الأقربون للبلد’ الذي يهرع ناسه للخرطوم سريعا أيضا وهكذا درج الجانبان على انتظار قدوم أهلهم حتى بات معتادا على ألسنتنا لفظا ” منتظرين ناس البلد ” و” ناس الخرطوم في البص”.
جاءت كرونا بغتة لتجبر الناس على الانزواء والانطواء حفاظا على الأرواح النفيسة حتى صار مألوفا أن يتشارك سكان كل قطاع جغرافي على حدة تقريبا .. الخرطوم بكلاكلاتها وأمدرمان بثوراتها وأمبداتها وشرق النيل ببلاد حاج يوسفاتها مع انضمام الأقربين من القطاعين الآخرين.
الحين جرت كرونا أذيال الانحسار والانكسار من بعد سطوة مميتة وعربدة مقيتة وانصرفت وعادت المياه لمجاريها فهل يعود العاصميون لسابق عهدهم بالإسراع للمناسبات على بكرة أبيهم جماعيا بدوافع المتعارف وحتمية الواجب أم ستلقي ظروف الخلل الأمني والضغوط الاقتصادية وصنوف اللأواء والشدة بظلالها ونظل أسرى الغياب عن الواجبات مجبرين مكرهين?!
وتطل هنا حكمة الإمام علي الميمونة ” لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها “.
ثم
ما صيرورة المستقبل .. ترى هل سيتعلق الجيل الصاعد عتبة باكر بعرى التواصل الحميم’ لاسيما أن كثيرين منهم لم يروا قراهم بتاتا بل لا يأبه ” بعضهم ” مكتفين ب ” أولاد الحارة ” حتى بالتواصل داخل العاصمة مع أهلهم ب ” اللفة “؟!