” تجينى يجينى معاك زمن امتع نفسي بالدهشة …….. طبول بتدفق وساحات لفرح نور وجمل للحزن ممشى “
الحزن القديم عمر الدوش ووردي
هذه هي الحلقة الثانية من سلسلة المقالات التي كتبت لأحياء الذكرى العاشرة لرحيل الفنان محمد وردى الهرم الأكبر لفن الغناء والموسيقى في السودان والذي انتقل الى جوار ربه في يوم 18فبراير 2010م، ومنذ ذلك الحين فالفراغ الذي أحدثه بوفاته يزداد اتساعا يوما بعد يوم لا سيما بعد رحيل الهرم الثاني الفنان عبد الكريم الكابلي فنان ” كل الجمال” في 2ديسمبر 2021م فأصبحت الساحة الغنائية الموسيقية خالية تماما من الابداع والتجديد بالرغم من وجود عدد كبير جدا من المغنيين والمغنيات الذين أصبح كل ما لديهم هو التفنن في ترديد أغاني الاخرين واصبح ويا للأسف معيار و مقياس الإبداع هو ” من هو الذي يغني أغاني الغير بأفضل من الاخرين !! ” كما ان بعض وسائل الإعلام والميديا الحديثة لم تقصر! فهي تطلق الألقاب لهؤلاء المغنيين والمغنيات بسخاء وكرم حاتمي لا مثيل له من شاكلة ” الملك” و “السلطان” و ” السلطانة” و ” القيصر” ونحن بدورنا يحق لنا أن نتساءل ” ما هي تلك الأعمال الموسيقية الكبيرة و الباذخة المتفردة التي أبدعها هؤلاء الملوك والسلاطين والزعماء والتي بموجبها تم منحهم تلك الألقاب؟
هذا التردي والتدهور الجسيم في الغناء والموسيقى الذي نشهده اليوم قد دعا الشاعر المخضرم إسحاق الحلنقى رئيس جمهورية الحب كما يطلق عليه الى ان يقول والحسرة تحرق قلبه ” نحتاج الى مائة سنة أخرى ليكون عندنا مثل وردى والكابلي ومحمد الأمين “
كان وردى عليه الرحمة موهوبا متفوقا وخصوصا في صناعة الالحان وصياغتها وتأليف الموسيقى وترتيب النغمات والإتيان بكل ما هو جديد وبديع! كما كان جادا جدا في عمله لا يقبل التراخي او الإهمال وهذا كان من أسباب هجومه الحاد على بعض من يسمون أنفسهم نجوم الغد او فنانين الشباب، فقد كان وردى يرى بان اغلبهم لا يعير مسالة الغناء الاهتمام الكافي أو الجدية اللازمة! وان جل همهم هو الثراء السريع من الغناء بأيسر وأسرع الطرق، وفى المقابل فعندما لم يجد بعض الحانقين عليه مأخذا واحدا فقد دمغه بعض العاطلين عن الموهبة الذين دخلوا عن طريق الخطأ الى دنيا الفن والغناء وبعض انصاف الإعلاميين بان وردى ” مغرور ومتعجرف (متقرضم) لا يرى سوى نفسه ولا يعترف بالآخرين!! وهذا بالطبع افتراء لرجل كان على الدوام يكن كبير الاحترام والتقدير لمن سبقوه وكان يقول بان احمد المصطفى والكاشف وحسن عطية وعبد العزيز داوود وعثمان حسين هم بالنسبة اليه خط احمر لا يقبل فيهم لا النقد ولا التشكيك! ويقول عن إبراهيم عوض بانه فنان كبير وانه كان ملك الاغنية الخفيفة الراقصة وكان مثال للأناقة و الموضة التي تأثر بها كل الشباب في تلك الأيام وانه كان شديد الاعجاب به وكان يردد اغنياته وخصوصا اغنية ” حبيبي جنني” اما عثمان حسين فقد كان وردى لا يمل من تكرار احترامه له ويصفه بانه قامة موسيقية تعلم منها الكثير و تأثر بأسلوبه الفذ في تأليف المقدمات الموسيقية الغنية بالنغمات الميلة ال العبقرية التي لا يستطيع تأليفها إلا موسيقار كبير , وفى لقاء تلفزيوني جمع بين عثمان حسين ووردي قبل وفاة عثمان حسين بفترة وجيزة ذكر الإعلامي عوض إبراهيم عوض مقدم البرنامج بان وردى قبل التسجيل طلب منه ان يقوم بتقديم عثمان حسين قبله لان العين لا تعلو على الحاجب ! ! ونحن نتساءل هل هذا سلوك انسان متعجرف؟
في العام 1958م كان وردى الذى اكمل العام منذ دخوله الإذاعة في 19 يوليو 1957م قد قام بتسجيل 17 اغنية ( تخيل عدد 17 أغنية جميلة في عام واحد) جميعها لاقت القبول و الاستحسان من الجمهور, ولهذا السبب فقد اتخذ مدير الإذاعة وقتها الأستاذ محمد صالح فهمى قرار تاريخيا استثنائيا لم يحدث من قبل و لا تكرر بعدها وهو ترقية وردى من فنان في الدرجة الرابعة ( الأقل في التقييم الفني) الى الدرجة الأولى ( الأعلى) وهذا يعنى زيادة المستحقات المالية بالإضافة للوضع الاجتماعي والأدبي ولم يكن هذا الامر ميسورا او سهلا كما يتبادر الى اذهان البعض فقد كان ذلك الأمر شبيه بالصعود إلى القمر و ارتياد الكواكب البعيدة !! ولهذا كان الحصول عبيها غاية الآمال لدى الفنانين لا يبلغها الا من كانت له سنوات طوال و اعمال كثيرة مسموعة لدى الجمهور وفى ذلك الوقت كانت بالإذاعة لجان فنية متخصصة لا تعرف المجاملة ولا الطرق الملتوية , ولكى نعرف مدى صعوبة الحصول على هذه الدرجة فان الفنان الراحل زيدان إبراهيم العندليب الأسمر ذو الصوت الأسطوري كان قد ذكر بانه كان مركونا في الدرجة الثانية لفترة طويلة من الزمن وبالرغم من تقديمه العديد من الاعمال الجميلة فلم تشفع له في الحصول على الدرجة الأولى وهذا الامر قد تسبب له في الكثير من المعاناة النفسية ومما فاقم معاناة زيدان هو حصول الفنان ابوعركى البخيت الذى كان منافسا لزيدان في وقتها على الدرجة الأولى مما جعل زيدان يعمل كل المستحيل لنيل هذه الدرجة ويطرق أبواب كل الشعراء و الملحنين بإنقاذه او اسعافه بأغنية تساعده على نيل مبتغاه , حيث قادته خطاه الى الملحن المرحوم الفاتح كسلاوي الذى كانت لديه اغنية جاهزة لديه اغنية جاهة من كلمات الشاعر عوض احمد خليفة وهى ” دنيا المحبة او في بعدك يا غالى” فذهب اليه زيدان راجيا و متوسلا ان يعطيه هذا اللحن , وبعد ان قام زيدان بتسجيل الاغنية والتي كانت علامة فارقة في مسيرة الفن السوداني حيث ومنذ لحظة اذاعتها لاقت القبوا و الترحيب من الجميع وكان الكل يرددها و لفترة طويلة مما مكن زيدان أخيرا من الحصول على الدرجة الأولى . وبالعودة الى وردى فقد روى قصة حصوله على الدرجة الأولى فقال:
“استدعاني متولي عيد إلى مكتبه، ودعا في الوقت نفسه زملائي إبراهيم الكاشف وحسن عطية وعثمان حسين وأحمد المصطفى. وعندما دخلنا مكتبه وجلسنا، خاطب زملائي قائلاً: الولد ده أنا عايز أرقيهو إلى الدرجة الأولى وأريد رأيكم بأمانة. أنا شخصياً لا أحابي أحداً، لكن من الإنصاف أن نقول إن إنتاجه غزير وجيد، وقد أصبح من المطربين الأوائل في برنامج ما يطلبه المستمعون.
وافقوا جميعاً على أحقيتي بالترقية. وهي شهادة من العمالقة الذين أعتبرهم رواداً حظيتُ بالنشأة وسطهم. وأذكر أن متولي أردف موجها الحديث نحوي: “أقول لك امام اخوانك الكبار هؤلاء إنك حالة شاذة واستثنائية، وحرام ان نحرمك من حقك. لكن والله تروح تنغمس في ربط الكرافتات وركوب السيارات وتعتبر نفسك وصلت القمة مع اخوانك اللي بيغنوا من ثلاثين سنة، أعيدك مرة أخرى إلى الدرجة الرابعة” . هذه القصة توضح بجلاء كيف كان مجتمع الغناء والموسيقى صحيا و شفافا و تسوده روح الاخاء و الزمالة الحقة، فبالرغم من التنافس الذى كان قائما بين الفنانين الا انهم وبروح طيبة اقروا بأحقية وردى في هذه الترقية الاستثنائية، وهنالك موقف اخر و بالرغم من طرافته الا انه يبين مدى التقدير والحب الذى كان يكنه زملائه له , ففي اعقاب فشل الانقلاب الذى قاده هاشم العطا ضد نميرى في العام 19 يوليو 1971م فقد تم اعتقال وردى و معه مجموعة كبيرة من الأشخاص المحسوبين على التيار اليساري المؤيد للانقلاب , وعندما طالت فترة الاعتقال والتي استمرت قرابة العامين ونصف العام تململ زملائه الفنانين واشتاقوا له و تمنوا عودته السريعة اليهم , فوردي كان فاكهة الفن المشهود له بغزارة الإنتاج و الحيوية بل و المشاغبات اللطيفة و المشاكسات المحببة والتي افتقدها الجميع , فيحكى بانه وفى احتفال فيه كان فيه الرئيس نميري في مدينة جوبا بمناسبة عيدا لوحدة الوطنية ضم عدد من الفنانين مثل احمد المصطفى حسن عطية و عبدالعزيز داوود وفيه اتفق الفنانين على مفاتحة نميري و الطلب منه ان يقوم بأطلاق سراح وردى واوكلوا هذه المهمة الصعبة لعبدالعزيز داوود بسبب ان نميري كان يرتاح الى أبو داوود و يستلطفه و يستمتع بنكاته و طرائقه وكانت الخطة ان يقوم أبو داوود بونسة تمهيدية مع النميري و اضحاكه وعندما ينبسط تتم مفاتحته في الموضوع , وفعلا قام أبو داوود بمهمته خير قيام فقد ادخل السرور و البهجة الى نفس النميري و جعله يقهقه ضاحكا وعندها دخل أبو داوود في الموضوع فقال لنميري :(يا ريس ما تشوف لينا موضوع وردي دة ، حينها انتفض النميري وتبدل حاله من الفرح الى الغضب و ارتسمت على وجهه كل معالم الشر و القسوة فقد كان حتى ذلك الوقت يشعر بالكراهية و البغض لوردي ووقف على طوله، وقال بلهجة غاضبة مزلزلة (وردي مالو ؟؟ ) بفطنة وذكاء أبو داوود الذي يعرف كيف يتعامل مع مثل هذه المواقف الصعبة فقال بهدوء (أنا قصدي ما تعدموا وتقطع راسو وتريحنا منو وتريح نفسك)، حينها انفجر النميري ضاحكاً حتى سمعه كل من كان بالمسرح، ويقال وقتها ان نميري قد بدأ فعلا في مراجعة قرارة باعتقال وردى حيث قام بأطلاق سراحه بعدها بوقت قليل. وهذه القصة تبين بجلاء مدى محبة الفنانين لوردي، وهذا يدحض تماما من انه كان مغرورا وغير محبوب لأنه لو كان كذلك لما سعى زملائه الى المخاطرة والمجازفة بالعمل على اطلاق سراحه.
ونواصل
amirrshahin@gmail.com