«إن التدريس كان بالنسبة إلى الرغبة الثانية بعد الغناء ولكن إذا خُيّرت بين التدريس والغناء لفضلّت الغناء وإذا خيرت بين التدريس وأي عمل آخر لفضلت التدريس ، وأعتقد أن الفن يعتبر أيضاً تدريساً»
“محمد وردى “
تمر علينا هذه الأيام الذكرى العاشرة لوفاة محمد وردى بيتهوفن الموسيقى السودانية وإمبراطور الاغنية الافريقية ! والذى حدثت وفاته مثل هذا اليوم منذ 10 سنوات (18 فبراير2012م) غادرنا الأستاذ محمد عثمان حسن صالح وردى المشهور ب “محمد وردى” عن عمر يناهز ال 80 عاما قضاها في خدمة فن الغناء والموسيقى السودانية وخلف وراءه اعمال خالدة واثار راسخة باقية الى ان يشاء الله في وجدان الامة السودانية ، ويؤكد المراقبون بان نهضة وتميز الموسيقى السودانية والتي بلغت اوجها في السبعينيات من القرن الماضي وأصبحت ذات تأثير كبير حتى في المحيط الإقليمي مثل اثيوبيا واريتريا والصومال وجيبوتي وبلاد النوبة المصرية لم تكن من فراغ بل بفضل مجموعة من المطربين والموسيقيين السودانيين المبدعين ووالمتفردين والذين شاء الله سبحانه و تعالى ان يتواجدوا سويا في فترة زمنية واحدة مثل عثمان حسين وإبراهيم عوض وصلاح بن البادية والكابلي ومحمد الأمين وبالطبع كان وردى على رأس القائمة بدون جدال !! فما الذي كان يميز وردى عن الآخرين ويجعله في مقدمة هؤلاء الأساطين الأفذاذ؟؟ في رأى الدكتور الأستاذ انس العاقب شيخ النقاد الموسيقيين في السودان بانه لا يمكن الحديث عن تجديد الموسيقى السودانية بدون ذكر وردى! وان هنالك 3 أهرامات في تاريخ الموسيقى السودانية الحديثة وهم خليل فرح والكاشف ووردي! وقد يختلف بعض الناس في رؤية انس العاقب وتقييمه لمسيرة الفن السوداني ولكن انس أيضا يبقى واحدا من حملة مشاعل النقد الموسيقى العلمي في السودان ! والطريف في الامر بان انس العاقب بدا كتاباته بنقد حاد ومتواصل لوردي في بدايات مسيرة وردى الفنية!! ويحكى انس العاقب فيقول بانه وفى مرة من المرات تقابلا في مبنى الإذاعة وهنا بادر وردى والذي كان مشهورا بين زملائه بانه صريح جدا ولا يسكت ابدا عما يراه انه امر يستوجب التصدي له وإيقافه عن حده ، وقال لانس العاقب “انت يا انس ما عندك موضوع تكتب فيهو غير وردى”؟؟؟؟ وهنا عرف انس العاقب بفطنته بان وردى مستاء منه ومن الأفضل تطييب خاطره فهو رغم نقده له كان في قرارة نفسه يعرف بان الرجل عبقري وذو موهبة جديرة بالاحتفاء والتشجيع فرد انس قائلا “طيب انت يا وردى دايرني اكتب عن فلان ولا فلان؟ وهنا هدأ وردى وقال لأنس“ تكتب عنى طبعا “ومن المعروف بان وردى كان معتدا بنفسه معتز بفنه الى درجة ان البعض قد دمغه بصفة المتعجرف والمغرور، وهذه صفات لم تكن ابدا تشبه وردى، وكما يقولون “انه يوجد خيط رفيع بين العبقرية والجنون فهنالك أيضا خيط اخر رفيع بين الاعتداد بالنفس و الغرور “ وردى كان على حسب ما عرفه القريبون منه كان ساخرا يتمتع بخفة الظل و الروح ومع ذلك فقد كان صريحا لا يخفى رايه ولا يجامل ابد حتى مع اقرب المقربين منه ! وكما يقولون فالأمور عنده بيضاء او سوداء ولا تعرف المنطقة الرمادية! وينطبق عليه المثل الإنجليزي “عندما أرى جاروفا فأنني اسميه جاروف Call a spade a spade ” فهو صريح الى الحد الذى كان يراه البعض جارحا او مستفزا , واما صفة الغرور وعدم الاعتراف او تبخيس الغير فهي تهمة الصقت به زورا و بهتانا فقد كان وردى معجبا بأعمال من سبقوه فهو كان يقول بان بان الكاشف واحمد المصطفى وحسن عطية وعثمان حسين وعبدالعزيز داوود هم خط احمر بالنسبة له ولا يقبل الطعن فيهم او النيل من مكانتهم وهم يستحقون كل تقدير واحترام من الجميع , وكان وردى يخص الفنان عثمان حسين بالتقدير والاعتراف بموهبته وذلك برغم المنافسة التي كانت مستعرة بينهما فكان وردى يقول بأنه تعلم واستفاد من الموسيقى التصويرية التي كان يبدع فيها عثمان حسين وخصوصا في المقدمات الموسيقية وتعدد الكوبليهات .
ومن عجائب القدر ان ميلاد وردي كان في نفس العام الذي توفى فيه رائد فن الغناء السوداني الحديث خليل فرح (ميلاد وردي في 19 يوليو1932م ، ووفاة خليل فرح في 30 يونيو 1932م) وهذا يذكرنا بالهتاف المشهور (مات الملك ، عاش الملك) (بالإنجليزية : The king is dead, long live the king!) أو اختصارًا عاش الملك! (بالإنجليزية : Long live the king!) ؛ هي عبارة تختصر الإعلان التقليدي الرسمي للدول حين يعتلي ملك جديد العرش بعد وفاة الملك السابق ، وكأنما أراد الخاق العظيم جل جلاله تعويض السودانيين عن فقدهم الكبير! والغريب في الامر بان كلا الرجلين ينتميان الى الحضارة النوبية التي تعتبر واحدة من أقدم الحضارات التي عرفتها الإنسانية!! .
ومنذ دخول وردى الإذاعة في العام 1957م وتسجيل أولى أغنياته ” الحب و الورود (يا طير يا طاير)” و ” يا سمرة” ” يا سلام منك انا اه” وكانت هذه الأغنيات من كلمات إسماعيل حسن الذى قام بتعريب كلمات الليلة يا سمرة من اصلها النوبي كما ان لحن يا سلام منك انا اه مأخوذة من التراث النوبي أيضا , وبالرغم من ان هذه الأغنيات قد لفتت اليه الأنظار وخلقت له جمهور كبير , الا انه كان في قرارة نفسه يشعر بانه يريد ان يخرج عن المألوف و يقدم أفكار لحنية وموسيقية جديدة فقد كانت موهبة التلحين والموسيقى تندلع وتمور في داخله وتدفعه لإظهارها وإخراجها الى الجميع فهو ليس مجرد مغن يؤدى الأغاني التي تجيئه جاهزة من كلمات والحان , بل ملحن وموسيقى لديه رُؤًى وأفكار جديدة جديرة بالظهور الى الناس !! , كما انه كانت لديه بعض التحفظات في لحن اغنية “يا طير يا طاير” التي لحنها له خليل احمد بلحنها الدائري وموسيقاها التي تردد نفس كلمات الاغنية ! وكانت أولى خطواته في طريق التلحين والتأليف الموسيقى اغنية “اول غرام يا اجمل هدية” والتي قام وردى بكتابة كلماتها وقام بتلحينها كأول لحن له يخرج من اطار الحان الأغنيات النوبية ، ويقول وردى بأن هذه الاغنية قد رات النور بعد الكثير من الجدل ، فهو عندما اكمل اللحن ذهب ليسمعها الى الملحن خليل احمد والذى قال لوردي عند سماعه لها “دة كلام فارغ” مما أدى الى خصام وجفوة بينهما استمرت طويلا , وعند تقديم الاغنية إجازته في الإذاعة زجره مدير الإذاعة وقتها محمد صالح فهمى وقال لوردي “ايه دة ؟ انت المفروض تغنى وبس مالك ومال كتابة الشعر؟؟“وكان طوق النجاة من هذا المأزق هو نسب القصيدة الى العازف على ميرغني والذي كان صديقا حميميا وقتها لوردي وعندها تمت إجازة الاغنية “اول غرام” لتحقق نجاحا كبيرا وتضع قدم اقدام وردى في أولى العتبات المؤدية الى اعلى قمة الموسيقى في المنطقة من خلال اعمال موسيقية خالدة مثل “قلت ارحل” و” بناديها” و ” الجميلة و مستحيلة”
ونواصل بإذن الله
amirrshahin@gmail.com