برلمانية ألمانية: حين ننتقد قطر علينا أيضا الاعتراف بإنجازاتها
كره إعلامي فادح لمونديال قطر … ما السبب؟
كأس العالم، منافسة عالمية من العيار الثقيل ذلك دون جدال. جاءت هذه المنافسة في أواخر هذه السنة ولأول مرّة على أرضٍ عربية، فيا لها من سعادة للأمة العربية ويا له من شرف لأبنائها من المحيط إلى الخليج وهذا حقيقةً هو الإحساس السائد في كل تلك البلدان. لقد بذلت دولة قطر، منذ أول يوم تم اختيارها فيه لتنظيم هذه التظاهرة العظيمة، كل ما في وسعها من جهود حتى تكون هذه المنافسة ناجحة، حرفية، آمنة، وشائقة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان وكان كذلك. إذ كانت الحفاوة القطرية والعربية في كل بقعة من بقاع الدولة، وكان الكرم الفائق لكل زائر. وأجمل شيء أن في مباراة الافتتاح وُضعت على كل كرسي بالملعب هدية، وهل حدث ذلك يوما ما؟! إذا تحدثنا عن المعايير الحرفية في التنظيم فأظن أن مونديال قطر هو الأفضل في تاريخ الكرة على الإطلاق، ذلك من حيث الاستراتيجيات، الخطط، التنسيق، الترتيب، التنفيذ، الخ. لكن رغم كل هذه الجهود العظيمة فقد طافت بعض الغيوم الملبدة على سماء هذه المنافسات، بالأحرى ريح أتت من الغرب الأوروبي وبالذات من ألمانيا. فقد وقف العالم ولأول في تاريخ المستديرة على صورة تذكارية ناقدة بوجه سياسي للفريق الألماني، وبغض النظر عن رأي الفرد منّا فيها، فقد اعتقد لاعبو الفريق عند وقفتهم تلك أن باستطاعتهم أن يلعبوا في غضون هذه المنافسة دورًا سياسيًا لم يتجرؤوا أن يلعبوه من قبل لا في المنافسات الخارجية ولا في المنافسات التي تنظم في سياق البوندسليغا. والجدير بالذكر أن هؤلاء اللاعبون أنفسهم قد شاركوا بكأس العالم بروسيا، ونفس الاتحاد شارك في أولمبيات بكين. بيد أنهم لم يبدوا هذا الشغف السياسي تجاه منظمي المنافسات، لهذا السبب فأنا أسأل نفسي في كل مرّة؛ من أين أتت كل هذه الكراهية وهذا الحقد الألماني العام على مونديال قطر؟ ويجب أن أقول بأن الأجواء العامة في الشارع الألماني وبالإعلام عموما، تبدي انطباعًا سلبياً للمشاهدين أن يحاربوا هذه المنافسة، بأي صورة من الصور، وهذا رأيي الشخصي، إذ لا تظهر إيّ اهتمام لما يحدث في قطر، وأظن أن ذلك يعزى للدمار المعنوي الكبير الذي صاحبته حملة شعواء على هذه المنافسة التي تقام في دولة عربية مسلمة.
زيورخ واختيار قطر لتنظيم المونديال في عام ٢٠٢٢:
ما أن حازت قطر عام ٢٠١٠ على تصويت الفيفا بمدينة زيورخ السويسرية لتنظيم كأس العالم حتى اندلعت حملات شعواء باتجاهها. وظلت ألمانيا هي الدينمو المحرك لكل هذه القذائف باتجاه الدوحة وما فتئت تلك أن تتكاثف قبيل انطلاقة صافرة البداية.
يتحدث الناس عن الطرق غير الشريفة التي تمت حين تمّ التصويت لقطر. وهنا لابد للاتحاد الألماني أن يراجع نفسه في هذا السياق ويرجع البصر في أن يرى كيف تم اختيار ألمانيا لمونديال ٢٠١٤، وأن تستقصي الأمر في مسألة، هل لعبت القوى الألمانية الشهيرة دورًا بارزاً في التصويت؟ الكل يعلم أن فرانس باكنباور، سفير الحملة آنذاك قد واجه انتقادات لاذعة في الأمر، وتنحى هو من منصبه كما تنحى العديد من المسؤولين ومن الرؤوس القائدة في الاتحاد الألماني. والقضية تظل معروفة لكل فرد بالبلاد.
هناك كثير من النقاط التي تبعث في دواخلي تساؤلات عديدة، منها ما لا أتفق فيه مع الكثيرين من أولئك الذي يحملون لواء الحرب الإعلامية ضد قطر. فليس من النزاهة في شيء بل هو في الحقيقة عين النفاق أن نتظاهر بأننا ندافع عن حقوق الإنسان أثناء كأس العالم بقطر بينما كان بإمكاننا أن ندافع عنها خلال الألعاب الأولمبية في الصين فضلًا عن روسيا. أين كنّا بربكم … وأين كانت تلك الأصوات التي تنادي بحقوق الإنسان. هل نسينا احتلال شبه جزيرة كِرِم من قبل الروس، أم نسينا ضرب الطائرة الهولندية من قبل القوات الموالية لروسيا؟ والقائمة طويلة. نعم حقوق الإنسان لا مفاوضة ولا مفاصلة فيها، هذا أمر مفروغ منه. من جهة أخرى، يجب أن نتذكر بأن المنافس على إقامة مباريات كأس العالم في قطر كان الولايات المتحدة الأمريكية. فلو كانت منافسات كأس العالم قد أقيمت في الولايات المتحدة، لكان علينا أن نشكو من وجود غوانتانامو هناك، ولكان علينا أن نتطرق لحقوق الإنسان التي نادت بها الفئات المضطهدة بالولايات المتحدة خلال تظاهرات “بلاك لايف ماترس”. وماذا عن تطبيق حكم الإعدام في بعض المقاطعات، عن أبو غريب، عن الانتهاكات الفظيعة للجيش الأمريكي في العراق، عن احتلاله لأسباب لم تكن لها بالأساس وجود، ولما وصل إليه هذا البلد من الدمار الشامل، والقائمة طويلة. نعم، قطر تحتاج في قضية حقوق الإنسان إلى مراجعات عديدة، لا سيما تجاه القوى العاملة هناك، تغيير قانون الكفالة، تحقيق الأمن المجتمعي للعمالة المغتربة، ومن هذا المنبر أنادي المسؤولين هناك بأن يواصلوا سيرهم في هذا الطريق الشاقة، وأن يعلموا أن أنظار العالم ستظل موجهة تجاههم ما دامت هذه الدولة الفتية قادرة على منافسة الدول العظمى في العديد من المجالات، لا سيما في قيام المنافسات العالمية على أعلى مستوى.
الإمبريالية الثقافية الألمانية …!
إذن لا أعرف أين نبدأ وأين ننتهي! وأعتقد أن هذا ما هو إلا شكل من أشكال الإمبريالية الثقافية، ذلك عندما نحاول فرض قيمنا على الآخرين لأنها تتناسب وإيماننا بها. فأما أن نقوم بذلك بشكل دائم ومستمر أو نترك الأمر تمامًا. لماذا كل هذه الهجمات الآن وليس من قبل؟ إن كنّا حقيقة ننشد معارضة قيام المنافسة بقطر، فكان لابد منذ أول وهلة معارضة الذهاب إلى هناك، وكان يجب على اتحاد الكرة الألماني أن يرفض المشاركة بصريح العبارة ذلك منذ الضربة الأولى للترشيح وقبل أن تقع الفأس في الرأس. وكان ينبغي على كل الشركات الألمانية ونوادي كرّة القدم أن تقول لا بصريح العبارة. يشارك لاعبو هذه الأندية في الآن في المنافسة ويربحون عبر الدعاية لشركات خليجية مبالغ تصل إلى المليارات من الدولارات وحدث ولا حرج. يا سادتي دعوا النفاق ولا بد علينا أن نعترف بأن عالم كرة القدم ما هو إلى سوق فاسدة حقيقة، ومشروع تجاري بجدارة. هل نسينا أن فريق هامبورغ (ها إس فاو) يحمل ماركة الخطوط الجوية الإماراتية على قميصه، هل نسينا أن البافاري (بايرن ميونخ) يتحصل على ما يُقدر ب ١٠٠ مليون يورو سنويًا من شركة قطر للطيران، تُدفع منها أجور لاعبيّه في البوندسليغا، وبعض هؤلاء يشارك الآن في المونديال، وكان نصيب الأسد في تكثيف الحملة داخل لواء البودنسليغا، مثال مانويل نويا وليون غورستكا وآخرون. من جهة أخرى نجد أن الغريب في كل هذه المخمصة هو حين الدخول إلى مطار الدوحة العالمي، حيث نجد أكبر الدعايات في أسواقه الحرّة، دعاية بايرن ميونخ ونرى نفس الوجوه، مثال سيرج كنابري وجمال موسيالا، وليروي زانيه، تلك التي كممت أفواهها في الصورة المشهودة، تملأ جنبات المطار فضلًا عن وجود متجر لها. بايرن ميونخ وقادته هم من أيضًا دعموا تحويل المنافسة من شهر يونيو ويوليو إلى نوفمبر وديسمبر، من بين هؤلاء كارل رومينغه على سبيل المثال لا الحصر. وليست قطر أو دول الخليج هي الوحيدة التي تدفع المليارات للبودنسليغا، ماذا عن غازبروم الروسي أو عن الأوليجارش الروس الذين اشتروا العديد من الأندية الأوروبية؟ وهناك موقف أذكره في إحدى الدول العربية، عندما كنت مرّة مع صديق قطري في إحدى المقاهي، فعندما عرفوا بأنه من قطر، صاروا ينادون بمقولة “قطر والفلوس المطر”. وعلى عكس النداء صراحة، نجد الشركات الأوروبية تلهث لمشاركة قطر في مشروعاتها وأن تستفرد من الفطيرة بنصيب الأسد. وهذه هي عين النفاق.
ماذا نطلب من العرب المهاجرين عند الوصول إلى بلدنا:
جاءت مع موجة الهجرة إلى ألمانيا أصوات كثيرة تطلب من الأشخاص الذين يأتون إلينا في ألمانيا أن يقبلوا قيمنا، أن يتعلموا اللغة الألمانية وأن يتأقلموا بأي طريقة كانت على وتيرة الحياة فيها. وبنفس القدر كان علينا عند الذهاب إلى قطر أن نؤمن إيمانًا راسخًا بأن لقطر حضارة، دين وثقافة مختلفة كل الاختلاف عن الثقافة الألمانية، وأن للشعب القطري والعربي عموما قيمًا تختلف تمام الاختلاف عن شعوب الغرب. إن لعبة السياسة ما هي إلا لعبة خطرة وقذرة على حد سواء، فما كان للفريق الألماني أن ينخرط فيها، وحتى ولو فعل، فكان عليه أولًا كما يقول المثل “أن يكنس ما أمام منزله”، قبل أن يعيّر الآخرين “باتساخ منازلهم”! نعم، أقول أن حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة، ومع ذلك فهانحنذا لا يبعد بلدنا إلى بضع كيلومترات قليلة من الحدود الأوكرانية أو الروسية ونرى بأم أعيننا انتهاكات الأخيرة لحقوق الإنسان في الأولى، وروسيا عضو دائم في مجلس الأمن، ولنضع خط تحت كلمة “الأمن”، فضلًا عن الحرب الشعواء التي أشعلتها روسيا على الشعب السوري، وفضلًا عن التقتيل والتنكيل وحالات الاغتصابات العديدة في حلب ودرعا وبقية بقاع سوريا. ولنترك روسيا جانبا لنتحدث عن حقوق الإنسان في بلد آخر، يهابه الغرب أيما مهابة، هل يوجد حقوق إنسان في الصين، أو يوجد حقوق فردية للأقليات الإثنية الموجودة فيها؟ فلنرجع البصر نحن الألمان لما يحدث من انتهاكات لا إنسانية لشعب الأويغور، فالصين تتنمر على مواطنيها أنفسهم من خلال التقييم والفرز الاجتماعي، لمحو السلوك الغير مرغوب فيه، وهذا ملف غنيّ عن التعريف ناهيك عن ملف الاعتراف بجمهورية تايوان الديموقراطية التي لا يمكن انكارها.
لسنا معلميّ العالم … علينا أن نهتم لأمور بلدنا في الأول:
يجب علينا في ألمانيا أن نتعامل مع الأمور المذكورة أعلاه بكل شفافية ونزاهة أو عندما نرفع السبابة لنشير للآخرين بأنهم أخطأوا في أمر ما. لقد سجل تاريخ ألمانيا في القرون الماضية أحداثًا مظلمة سواء في أوروبا أو في أفريقيا. وقد كنا السبب في انهيار تيارات الدم في كثير من بلدان العالم، لذلك ينبغي علينا أن نكون أكثر حرصاً عندما نمسك بعصى المعلم لتلقين الآخرين دروسًا في الإنسانية. أشار مدرب ليفربول يورغن كلوب إلى أمر مهم جدًا، يتساءل فيه ما الذي دفع اتحاد الكرة الألماني في خوض معركة السياسة الأخلاقية على الإطلاق؟
“يزعجني أن يوضع اللاعبون في وضع يتعين عليهم فيه دائمًا أن يكونوا على صواب سياسي تمامًا”، (…) فإذا كنت ستدخل منطقة الخطر السياسي كلاعب كرة قدم، فعليك أن تكون قادرًا على القيام بذلك أيضًا، وفي هذه القضية ضد قطر لم يحسب الاتحاد الألماني ما يمكن أن يحدث، عندما قرر المسؤولون الألمان باتخاذ موقف ضد مونديال قطر وضد الفيفا. والأمر قد يتفاقم لدفع غرامة للفيفا على هذه “البطولة الأخلاقية”، ويمكن للفيفا أن تفرض عقوبات رياضية بالإضافة إلى عقوبات مالية! يا للسذاجة والعجرفة! وينصح اللاعبين بأن يذهبوا إلى المنافسة ويقدموا أفضل ما عندهم، فبالعمل والتألق تحترم الشعوب بعضها البعض، وتُدخل بعضها في قلوب بعض. يقول إنّه نوع من المراجعة التاريخية العكسية، لأننا تغلبنا على تاريخنا القذر جزئيًا، نعتقد أنه يمكننا تعليم الآخرين عن النظافة (على سبيل الاستعارة) وغالبًا ما كنا نسقط على أوجهنا في الآونة الأخيرة، (يعني نُخفِق)، على سبيل المثال مع نورد ستريم أو مع الأسلحة الثقيلة لأوكرانيا. فالصراع دائم بين القيم والمصالح، فلابد لنا أن نحذر تعليم العالم.
فلابد لنا يا سادتي أن نبدأ بأنفسنا أولًا، كما يقول المثل الألماني أيّ، بواجباتنا المدرسية، قبل محاولة تغيير العالم والبشرية جمعا. ولنبدأ في بلدنا بدعم القوى الديموقراطية داخل وخارج البرلمان (البوندستاق)، الذي يجلس في مقاعده عدد لا يستهان به من العنصريين والنازيين من حزب الآ إف دي. وأن نُحسن وضع مقدمي اللجوء ونسعى لفرض المساواة في العمل وفي اتاحة فرص التعليم لمن لا يستطيع إليه سبيلا وتحسين الفرص هؤلاء وبين المواطنين، وأن نرفع صوتنا عاليًا ضد النازية الجديدة بكل أشكالها وتجلياتها، تلك التي ترفض صراحة وتفصيلا، للآخر وتنادي بشعار “ألمانيا للألمان”، ولا تقبل إلا الجنس الآرى، كما كانت الحال في غضون الحرب العالمية الثانية. يجب أن نحقق الديمقراطية والعدالة في بلدنا أولًا وأن نواصل الحوار مع الدول الفتية التي تسعى جاهدة في إصلاح المسار مثال قطر والسعودية، وأن ننظر إليها بعين المساواة وأن ننقدها ونتقبل النقد منها كالند بالند.
خاتمة:
تقول البرلمانية الألمانية من أصول عربية لمياء قدور: “حين ننتقد قطر علينا أيضا الاعتراف بإنجازاتها، أدعو الغرب لتبني صورة متمايزة عن المنطقة العربية وأحثه على عدم إغفال ما حدث فيها من تقدم في حقوق الإنسان. “