كانت الجلسة الختامية للمحكمة العسكرية الميدانية بسلاح الموسيقى حافلة بالمدهش والمثير.. فبعد ما قدم ممثل المستشار يس مرافعته الختامية.. والتي طالب فيها المحكمة كما هو متوقع.. بإنزال أقصى العقوبة على المتهمين.. ليكونوا عبرة وعظة لمن يعتبر.. أو يتعظ.. وأقصى عقوبة مفهومة.. والمعنى المراد واضح.!!
لقد حاول صديقا المتهمين.. وهما للذكرى.. المقدم مهندس أحمد الشيخ.. والنقيب شرطة عبد الله عوض السيد.. حاولا جاهدين أن ينقضا انكاثا.. غزل العقدة التي أحكم غزلها حول رقابنا ممثل الاتهام.. وذلك بالتشكيك في الأدلة المقدمة.. وكان رئيس المحكمة العقيد اركان حرب عمر أحمد إبراهيم.. كان متفهماً لظروفنا ولظروف المحكمة.. لهذا شعرنا بأنه ربما يكون حكماً أقرب منه خصماً.
كما كنا نظن بادئ ذي بدأ.. ولكن حكمه ليس نهائيا بالنسبة للجهة الأمرة بتشكيل المحكمة العسكرية.. فيمكنها تعديل الأحكام الصادرة بحق المتهمين.. أو زيادتها أو الغاءها.. أو حتى إلغاء المحكمة نفسها.. وتشكيل محكمة أخري.. إنهم يظنون انهم يفعلون ما يشاءون.. ولا معقب لحكمهم.. فطبائع الاستبداد واحدة.
وبما أنه ليست هناك فرصة للاستئناف.. لأن المحاكم العسكرية الميدانية حكمها نهائي.. فلم يبق إلا الاسترحام.. ويكون ردً على سؤال المحكمة: هل لديك أسباب لتخفيف الحكم عليك؟ وهو تأكيد ضمني بأن الحكم الرادع قد صدر بحقك.. وأنه أصبح قدراً مقدوراً.. وعليك فقط التماس اللطف فيه لدى المحكمة. !
وبما أن هذا السؤال هو تحصيل حاصل.. فقد أجاب كثيرون بالنفي.. أو بالصمت المعبر.. وأجاب البعض وأنا منهم بيتي الشعر المشهورين:-
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن تكن ميتة بأرض
فلن يموت بأرض سواها.
أما شاهد الأخلاق فتستمع إليه المحكمة.. وربما تنظر للمشهود له بعين الرأفة والرحمة وربما لا.
كان هنالك شاهدان لا زالت شهادتهما الشجاعة والمتميزة.. منحوتة في ذاكرتي إلى اليوم.. جاء د. حامد النعيم أخصائي النساء والتوليد.. بقسماته الصارمة.. وشاربه الكث.. شاهداً على حسن سيرة صديقه إبراهيم أحمد عمر أبوالجدى.. وختم شهادته قائلا إنه على استعداد أن يتبادل المواقع مع المتهم إبراهيم ويتحمل ما يترتب على ذلك.. على أن يطلق سراح المتهم لأن البلاد في حاجة لخدماته.. أي أنه يود لو يفتديه بنفسه!!
أما الشهادة الثانية.. فكانت شهادة د. الحبر يوسف نورالدائم.. الأستاذ المحاضر بجامعة الخرطوم.. والذي وقف في شموخ بقامته المديدة وهيبته البادية.. فوعظ المحكمة.. وأوصاها بالعدل.. ومخافة الله في خلقه.. وشهد لنا نحن طلابه في كلية الآداب شهادة ما كان لنا إن نحظى بسماعها لولا أن المنن في طيات المحن.. والمزايا في طيات البلاء كما جاء في آثار الإمام المهدى عليه السلام..
وبهذا رفعت الأقلام وجفت الصحف.. وبتنا في انتظار نتيجة الحساب.. حيث يحمد المرء أو يعاب!!
سلمنا على أهلنا سلام مودعين! كانت العواطف جياشة.. والقلوب ملتاعة.. فارقناهم ونحن أكثر شوقا إليهم حذر إلا نلتقي أبداً بعدها.. وقد وقع ما كنا نحاذر لبعضنا.
عدنا إلى العنبر الكئيب الموحش.. ونحن ينظر بعضنا إلى بعض.. في تساؤل متبادل.. ثم ماذا بعد؟ ومتى؟ وبأي وسيلة تكون النهاية المنظورة؟ هل يتكرمون علينا برصاصة تخترق القلب أو الدماغ.؟ فنستريح..
.كما كانوا يفعلون ذلك في الحزام الأخضر.. أو المرخيات وغيرها.. أم يختارون لنا الحبل المهين إمعانا في الاذلال والاهانة؟
كانت تحليلاتنا خبط عشواء.. بين التفاؤل والتشاؤم.. كان أول من زارنا في العنبر.. سعد ياجي المحامي.. وقد كان شريكا للأستاذ على محمود حسنين المحامي.. في مكتب المحاماة وصديقا له.. جاءنا على محمود بعد حديث هامس بينهما.. كنا على أحر من الجمر لمعرفة ما يخفيه الزائر.. جاءنا على متهلل الوجه باسماً.. قال إنه قال إن الأمور تسير على ما يرام.. وفق ما رشح من تسريبات.. ورحنا نسلخ جلد النملة تحليلا وتقييماً.. خاصة فيما نسب للرئيس نميري شخصيا أنه استصغر شاننا.. (وقال وين السياسيين الكبار ؟)
وبينما كنا في تلك الحالة من الراحة والانشراح.. تحولت نسائم ريح الصبا التي كانت تهب علينا.. الى سموم حارق يشوى الوجوه وتلبدت سماؤنا بالغيوم.. اظلنا عارض فيه ريح عقيم.. وعذاب مقيم.. وتغيرت فجأة معاملة الحراس إلى غلظة وعنف.. لعلهم علموا بمصيرنا.. وأن المفارق (عينو قوية).
كل الدلائل والمؤشرات تنبئ بالكآبة وسوء المنقلب.. بالطبع لا يمكنني أن أصف مشاعرنا في تلك اللحظات الفاصلة.. في حياة الإنسان. فقد كنا في مرحلة الـ لا احساس.. كأنما كنا في نوم مغناطيسي.. ولكن الكل كانوا متماسكين.. وإن كانت صدورهم تفور وتغلى.. أذكر واقعة أوضحت لنا بجلاء ما كان يدبر لنا.. فقد جاء بعض الحراس وأخذوا من بعضنا بعض الاشياء عنوة كغنيمة أو سلب! وقد انتزع أحدهم ساعتي بحجة أنى لا احتاج لها!
في منتصف نهار الخامس عشر من رمضان الموافق الخامس عشر من سبتمبر 76.. وقع ما كنا نخشى ونحاذر.. جاء الجلاوزة بخيلهم وخيلائهم.. يتطاير من أعينهم الشرر.. أمرونا بالوقوف.. وبعدم الكلام.. نادى مناديهم على اثنين هما: محمد محمود وكيل بريد وبرق.. من منسوبي حزب الأمة.. والشاب اسماعيل الذي كنا نناديه وينادينا بـ ” يا مرتزقة”. وتم أخذهما إلى جهة لا نعلمها.. ثم تم عزل المتهمين العسكريين الثلاثة.. وهم.. العميد سعد بحر يوسف.. والشيخ المك ومحمد خير أغبش وهما ضابطا صف مطرودان من الخدمة العسكرية.. في ركن قصي من العنبر الكئيب.. فظننا أنهم سوف يتم تنفيذ الحكم في حقهم رميا بالرصاص!! وبقي عشرون.. لم يطل انتظارهم.. إذ نودى عليهم تباعاً.. وحشر كل أربعة منهم في ناقلة جنود من طراز “مجروس”.. وسط حراسة مشددة.. تحرك الموكب الرهيب المهيب.
كنا نتساءل في صمت إلى أين نحن مساقون؟ فقط نقرأ الشر من وجوه الحراس المكفهرة.. إذ لم يبادلنا أحد منهم تحية الإسلام.. السلام!
بعد رحلة طويلة خلناها دهراً.. استعرضنا فيها شريط حياتنا كلها.. وقف الموكب أمام سجن كوبر.. إذن رجحنا حكم الإعدام شنقا.. فبدانا لا شعورياً.. نتحسس رقابنا.. كان المكان يوحى بسوء المصير.. أنزلونا من الشاحنات وقد أخذ منا الإعياء والصيام والحر الشديد.. وحرارة الجو وحرارة الجوف كل مأخذ.. تمنينا وقوع البلاء ولا انتظاره..
قسمونا إلى مجموعة صغيرة.. وأمرونا لا ننظر إلى المجموعات الأخرى.. مع ضرورة التزام الصمت المطبق..
بعد طول انتظار وتوجس وترقب.. وصلت هيئة المحكمة إلى السجن.. لإعلان الأحكام تمهيداً لتنفيذها..
نودى على أربعة منا وهم الشهداء الاربعة فيما بعد.. الشهداء: ابراهيم احمد عمر أبوالجدى.. وأحمد سليمان الشهير بـ “السكرتير”.. ود. عبد الله ميرغنى وعبد الفضيل ابراهيم.. دخلوا إلى هيئة المحكمة.. ولم يعودوا.. ما زاد خشيتنا وتوجسنا.. ثم استمرت المناداة علينا فرداً فرداً.. فيقوم المنادى عليه متثاقلا يجرر قدميه.. فيدخل على هيئة المحكمة مخفورا برجال من الشرطة.. فيقرا عليه كتابه.. ويخرج من باب آخر.. لا يدري بقية المتهمين ماذا فعل الله به؟
ثم نودى على.. فحاولت القيام من الأرض التى كنت جالسا عليها.. لا أدري كم من محاولة حتى تمكنت من النهوض؟ كانت تلك لحظة فقدان المشاعر.. تلك لحظات لا توصف.. عندما كان رئيس المحكمة يتلو الحيثيات الطويلة المملة.. كنت أتمنى أن يعلن الحكم فوراً.. والكائن يكون.. لقد تبلدت أحاسيسي تماماً.. ولم أفق إلا عندما ذكر تخفيف الحكم إلى السجن.. إذ لا يهم عدد السنين ما دامت رقابنا بعيدة عن أسوأ الحبال.. حبل المشنقة..
في منتصف الليل.. وجدنا أنفسنا كل في حبس منفرد.. في الزنازين الشرقية.. المجاورة لزنزانة المشنقة.. ونحن نلبس الزي الرسمى للسجن.. كنا 16سجيناً.. هم: سليمان احمد عمر أبوالجدى.. آدم احمد اسماعيل..محمود ابشر ومنصور.. وعبد اللطيف الطاهر الجيمعابي.. وهارون شنوبة.. ابراهيم تيمس.. أحمد يوسف النصيبة.. ادم عبد الله عبد الله حسين.. والمجاهد محمد إبراهيم عجب الدور.. وبلال عوض الله وشخصي الضعيف.. من حزب الأمة.. وعلى محمود حسنين المحامي وحسن حضرة والشاعر الاتحادي الزين احمد عثمان الجريفاوى.. من الاتحادى الديمقراطي.. ود.ياسين الحاج عابدين من جبهة الميثاق الإسلامي.. كان افطارنا في ذلك اليوم بعد منتصف الليل بماء قراح من الماسورة..
الان نحن في السجن العتيق.. وهو على بغضه أحب إلينا من الخيار الآخر الذي اقتيد إليه إخواننا!!
وان شاء الله سوف تكون لنا وقفات مع أحوالنا في السجون.. حيث كنا في تعاستنا وشقاوتنا ننعم ونضحك.. ونأمل في مستقبل أفضل.
*الكاتب: سياسي قيادي وكاتب صحافي