المقصود بالجسارة التعبيرية في هذا السياق، هي الجرأة على اجتراح واستخدام الالفاظ والتعابير بطريقة متفردة وعلى غير مثال سابق. وهي ملكة نادرة لا تتوفر الا عند ذوي القدم الراسخة في المعرفة اللغوية المكينة والذوق الشعري العالي معا. وقد وصف نفر من النقاد الشاعر الاموي همام بن غالب الشهير بلقبه ” الفرزدق ” على سبيل المثال: بانه من ذلك النمط من الشعراء الذين تميزوا بالجرأة والجسارة الشعرية، وسلوك الطرق غير التقليدية في التعبير عما يودون قوله. ومع ذلك، قال علماء اللغة وحراسها الاوفياء في حقه: ” لولا شعر الفرزدق لضاع ثلث اللغة “. وفي تراثنا الشعري الغنائي في السودان، نحسب ان الشاعر الشفيف الراحل صلاح حاج سعيد، كان يتميز هو كذلك بخاصية الجرأة التعبيرية الملفتة للنظر. تأمل قوله في هذا المقطع من اغنية ” لقيتو واقف منتظر ” التي يؤديها المطرب الكبير الاستاذ الطيب عبد الله: يا الله جيت قبل الميعاد ولا الزمن غفّلني زاد قصة يغيب ما اظن تكون وما اظن تدور يوم في اعتقاد فالتعبير يا الله جيت قبل الميعاد، او يا ربي جيت قبل الميعاد تعبير سائر في العامية السودانية يعبر به دائما عن التساؤل المشوب بنوع من الشك والحيرة وعدم اليقين ، وهو يعادل تقريبا التعبير العربي: أتُرى ؟ او يا هل ترى ؟ الخ ولكن وروده في نص شعري اضفى عليه حلاوة خاصة ، ونم بالفعل عن جسارة تعبيرية ظاهرة. وليس اقل منه جرأة وجسارة قوله ” قصة يغيب ” لانه تعبير سائر سوداني آخر يعني ببساطة: كون انه يغيب ، او مسألة او قضية غيابه الخ ، ولا علاقة لها بالطبع بالقصص والحكايات. أما في اغنية ” الشجن الاليم ” من الحان محمد سراج الدين واداء الفنان القامة مصطفى سيد احمد، فتتبدى الجرأة اللغوية والتعبيرية لصلاح حاج سعيد في قوله مثلاً: وانت سايىء فيني ظنك رغم انك لا الزمن يقدر يحول بالي منك ولا المسافة ولا الخيال يشغلني عنك عارفني منك … عارفني منك .. الخ والشاهد هو قول الشاعر سايىء فيني ظنك ، والمعروف والمشهور في الاستخدام اللغوي هو ان اسم الفاعل المشتق من الفعل الرباعي أساء هو مُسىء وليس سايىء. ولكن كلا ضرورة الوزن وخصوصا الجسارة التعبيرية هي التي حدت لصلاح حاج سعيد بان يستخدم سايىء فيني ظنك غير هياب ولا وجل. والشىء بالشىء يذكر بمناسبة الحديث عن اغنية ” الشحن الاليم ” هذه ، فقد سمعت الفنان الشامل الرائد السر احمد قدور رحمه الله وهو يروي في احدى حلقات برنامجه التلفزيوني الشهير ” اغاني واغاني ” عن الشريف زين العابدين الهندي عليه الرحمة والرضوان ، وحسبك به من شاعر فنان وذواقة، انه قال عندما استمع الى هذه الاغنية لاول بالقاهرة، انها تمثل نموذجا لغناء جديد ، ينثال من ينابيع ابداعية بكر وغير مسبوقة في دنيا الموسيقى واللحن والاداء الغنائي في السودان. ويمضي بنا صلاح حاج سعيد في مسيرة الادهاش والجسارة التعبيرية ، التي تصادفنا ايضا في هذا المقطع البديع من اغنية ” ما قلنا ليك ” من الحان حسن بابكر واداء الفنان الكبير الاستاذ محمد ميرغني: ما قلنا ليك الحب طريق قاسي وصعيب من أولو ما رضيت كلامنا وجيت براك أهو ده العذاب استحملو تامل استخدامه ل ” ما ” الاستفهامية التبكيتية والتقريعية هذه، التي تأتي في عامية اهل السودان بمعنى ” ألم ؟ “. فكأن معنى الكلام هو: ألم نقل لك ان الحب طريق قاس وصعب من بدايته ؟ الخ وأخيرا نجد تلك الجرأة في استخدام الالفاظ والعبارات عند صلاح حاج سعيد في قوله في اغنية ” نوّر بيتنا ” من الحان بشير عباس واداء البلابل في مثل قوله: يا الهليت فرحت قلوبنا واطّريتنا الليلة وجيتنا فمن الواضح ان الشاعر اراد طريتنا بمعنى تذكرتنا ، ولم يقصد الاضطرار كما يوحي نطق اطّريتنا في هذا السياق. وبالفعل سمعت البلابل ينطقنها ايضا: وطريتنا الليلة وجيتنا توضيحاً للمقصود. اما قول صلاح حاج سعيد في ذات الاغنية: مرحب سيدنا وأهلاً بيك فهو لعمري اللوز المقشر نفسه، سلاسة وحلاوة وتلقائية هي السهل الممتنع بعينه.