على العرب أن يبنوا على ما تحقق من نتائج إيجابية من مونديال 2022 في قطر، إذ استطاعت قطر أن تقدم على مستوى التنظيم ما يؤكد أن العربي ليس متخلفًا كما ظلت هوليود ووسائل الإعلام الغربية تروج لهذه الصورة، حتى انطبعت في الأذهان، ولم تعد تفارقها.
تخطت هذه الصورة الغرب، فانتقلت إلى الشرق أيضًا، وأهله أقرب للعرب، ولكنهم لا يروننا إلا عبر آلة الإعلام الغربية التي تمارس تنميط الشعوب، بل نحن – كذلك- اتخذناها مرآة نرى فيها نحن العرب الآخرين من أهل الشرق، على الرغم من قربهم الجغرافي، فأصبحت لنا صور نمطية ترتسم في أذهاننا عن الهنود والصينيين واليابانيين، ودول أمريكا اللاتينية، وصور أكثر قتامة عن دول أخرى، مثل: كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية، وغيرها من تلك التي تشاغب الغرب، وأميركا على وجه الخصوص.
ونذهب أبعد من ذلك، فلا صور لبعض قادة دولنا العربية في مرحلة ما، ولا لبعض شعوبنا، وخصوصًا دول الخليج العربي، إلا تلك التي يصدرها الإعلام الغربي، حسب موقفه منهم ومنها.
جاءت قطر اليوم لتؤكد بالأفعال لا بالأقوال كم تقدمت دول الخليج، وكيف أصبحت تتمتع بعقول مستنيرة تعيش العصر وتتفاعل معه أخذًا وعطاءً، وتستطيع أن تطوع قدراتها وإمكاناتها بما يحقق النفع لأبنائها، فأصبحت تحتضن أفضل الجامعات في المنطقة، وأحدث مراكز البحث والفكر، وأكثر القنوات الفضائية تأثيرًا بكل لغات الأرض.
كما عبرت قطر بحكمة واقتدار عن قيم العرب والمسلمين، التي تتسق مع المبدأ الإسلامي “الدين المعاملة”، فترجمه أهلها وكل العرب واقعًا يمشي، بحسن تعاملهم مع الآخر حتى فاق المألوف، فأبرز وجهًا مغايرًا تمامًا، لما ظلت تروج له وسائل الإعلام الغربية، فالإنسان العربي ليس ذلك العاشق للموت، ولا المكفهر الوجه، ولا الرافض للآخر، بل هو إنسان كالآخرين يعشق الحياة، ويعبر عن مشاعره بكل فنون التعبير من رقص وغناء وشعر وزغاريد، وهو حفي بالآخرين، ولا يتوجس منهم كما يفعل الغربيون، فداره مفتوحة لاستقبال كل الضيوف بلا فرز أو تمييز، وكرمه الذي عبرت عنه الأشعار يفصح عنه الفعل، وحسن الضيافة، وحفاوة الترحيب.
رفضُ الإنسان المسلم للسلوك غير السوي من مثلية وشذوذ لم يكن بالهتاف، ولا بأنواع الاحتجاج، كذلك الذي أتى به المنتخب الألماني، وإنما كان بالإقناع بالحجة، وتأكيد ضرورة احترام قيم الآخرين، وعدم مصادمتها، انطلاقًا من مبدأ إنساني “يا غريب خليك أديب”، وخصوصًا ونحن في محفل رياضي له لغته العالمية، التي يفهمها الجميع، فليس من داع لإخراج الرياضة عن النسق الذي ارتضاه الجميع.
هيأت قطر بأسلوب حضاري المجال للتعريف بالإسلام، من دون شعارات جوفاء، أو تصنع، فلبس الجمهور بكل حب اللبس العربي، وأقاموا احتفالاتهم في الشوارع والأسواق، وشربوا القهوة العربية، وتناولوا المأكولات الشعبية، واستمعوا للأذان، ودخلوا المساجد، وتفاعلوا جميعًا في رحاب الرياضة بسماحة وطيب خاطر، حتى إن منهم من ارتضى الإسلام دينًا، من دون ضجيج.
وجاءت نتائج الفرق العربية المشاركة لتؤكد أن العرب يستطيعون، ولا يقلون عن غيرهم، فكان فوز المنتخب السعودي على المرشح الأول الأرجنتين حافزًا لفرق آسيا وأفريقيا التي تذهب إلى المونديال، وهي تخشى زيادة الغلة من الأهداف، ولا يهمها بعد ذلك أن تتذيل مجموعتها، فرأينا فرقًا في القارتين تحرز نتائج وُصفت بالمفاجئة، لكنها لن تكون كذلك في الدورات المقبلة.
وأحدث المنتخب المغربي زلزالاً حقيقيّاً بنتائجه المبهرة، وبصلابته التي جعلته أقل الفرق استقبالاً للأهداف، إذ وصل إلى دور الأربعة بهدف واحد ولج مرماه.
وهذا الفريق بمدربه الوطني وليد الركراكي يؤكد أن العرب يسايرون التقدم في عالم الساحرة المستديرة، فلم يعودوا في حاجة إلى خواجة ليدرب منتخباتهم، ولا إلى أطباء مستوردين لعلاج لاعبيهم، ولن يكتفوا بالفرجة على لاعبي أمريكا اللاتينية وأوروبا، وإنما سيقدمون لاعبينا يغزون بهم ملاعب العالم ودورياته المتقدمة، كما يفعل محمد صلاح ورياض محرز اليوم، وغدًا سيتوزع لاعبو المغرب لا على فرق الدرجة الأولى ودوريات المظاليم، وإنما ستتسابق عليهم فرق المقدمة في كل الدوريات الأوروبية، وسيدفعون لهم ما يناسب مواهبهم، وإمكاناتهم.
هذا المونديال يدفعني إلى أن أخرج كتابي الذي ظلّ يشغل خيالي سنين عددًا، واستعرت له عنوانًا من الدكتور صلاح فرج الله ذلك المفوه، الذي قال لي ذات يوم “كرة القدم هي الحياة”، وهذا قول فلسفي يؤكد أن في المستطيل ما يشبه الحياة التي نعيشها، ففيه المشاعر المتناقضة من فرح وحزن، ودهشة، واستنكار، وتشجيع، واستهجان، وغير ذلك، وفيه التخطيط والإدارة، والجماعية، والقانون الذي يعاقب ويكافئ، وفيه الحظ والنحس، والصعود والأفول، فنجد نجومًأ قادمة مثل إمبابي، وزياش، ويوسف النصيري، وياسين بونو، ونجومًا آفلة، مثل: كريستيانو رونالدو، وميسي، وهاري كين.
كما أن كرة القدم علم قائم بذاته، وها هو مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) يصدر تزامنًا مع نهائيات كأس العالم قطر 2022 التي تقام لأول مرة في بلد عربي معجمًا موحدًا لمصطلحات كرة القدم، يوفر بيانات مصطلحية غنية باللغة العربية، تغطي معظم المفاهيم الرياضية والمتخصصة في المجال.
ألم أقل لكم كرة القدم هي الحياة، انتظروني. شكرًا لقطر، وشكرًا للرياضة التي تزيد مساحة التفاهم، وتؤكد إمكان أن يكون العالم أكثر رحابة وتعايشًا وتفاهمًا، وأقل بؤسًا، ودموية.