“المتغيرات في استراتيجية المجتمع الدولي لا تسمح للمكون العسكري باستئناف ألعاب الفوضى”
تعكس القوى السياسية اليوم خريطة واضحة تفسر لنا تحولاتها تأثير المكون العسكري على اللعب ببعض القوى وتحريكه لخيوط تحالفاتها (رويترز)
في مقال الأسبوع الماضي، لم أستبعد ولو من باب الاحتمال البعيد، أن يكون للمكون العسكري خطوط التفاف ارتدادية عن الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه، الأسبوع الماضي، بحجج من طبيعة استنسابية وشمولية، نظراً لعديد من التكتيكات التي جرت، أخيراً، على الساحة السياسية وبدت واضحة سواء من حيث تكوينها على عجل أو من حيث مفاجآتها التي عكست مفارقات عجيبة في مواقع المعارضين، إذ شكلت مؤشراً لنوايا قد تكون مبيتة. لكن في ظل واقعة شهدها، الأسبوع الماضي في شرق السودان، ونتيجة طبيعة التعامل معها من طرف المكون العسكري، أقدر معها أن ضغوطاً من الرباعية الدولية تتجه للدفع بهذا الاتفاق الإطاري إلى طريق أحادي ينتهي فقط، بضرورة توقيع بقية القوى السياسية التي لم توقع عليه. وأظن أن ذلك هو السيناريو الذي ستشهده الأيام المقبلة.
كشف الصدقية
وذكرت في المقال السابق أن “هناك علامات ومؤشرات سيتعين على العسكر التصرف حيالها في الأسابيع والأيام المقبلة ما قد يكون امتحاناً كاشفاً لصدقيته من عدمها في التزامه الاتفاق الإطاري، وذلك حيال أمور منها: إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وكفالة حرية التعبير والتظاهر من دون أي ممارسات قمع للتظاهرات السلمية، إضافة إلى بسط هيبة الدولة تجاه الإخلال بالأمن، لا سيما ضد بعض الفوضويين في شرق السودان، كالمجلس الأعلى لنظارات البجا- جناح إبراهيم أدروب- وبعض الجماعات التي هددت بغلق شرق السودان، وفي هذا الصدد سيكون الاختبار للعسكر أمراً لا يقبل التسويف”… ومصداقاً للطبيعة التي لا يحتملها التسويف حيال التعامل مع الرعاة الدوليين لهذا الاتفاق (الرباعية الدولية التي تضم أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، رشحت أنباء بحدوث إغلاق للميناء الجنوبي في مدينة بورتسودان من طرف جماعة فوضوية. وكان هذا الخبر قد شوش على كثيرين من السودانيين معيداً إلى الأذهان الإغلاق الذي مارسه رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا محمد الأمين ترك، العام الماضي، بيد أن الاحتواء السريع لذلك الإغلاق بواسطة الناظر ترك ذاته و(كما اعترف الشخص الذي حاول إغلاق الميناء في بورتسودان) كشف تماماً عن طبيعة الاستجابة التي تم بموجبها رفع إغلاق الميناء سريعاً، التي يرجح أنها كانت من تدبير العسكر وإيعازهم، لكن هذه المرة لم يكن الإيعاز باتجاه صناعة الفوضى (كما فعلوا المرة السابقة في عام 2021 عبر تحريض الناظر ترك لإغلاق الميناء لأكثر من 45 يوماً من أجل إسقاط الحكومة المدنية) وإنما بهدف فرض “هيبة الدولة” التي أصبح فرضها علامة لضغوط دولية على العسكر.
تسويات وضغوط
هكذا سنجد أن تسويات وضغوطاً (يُرجَح أنه قوى دولية كبرى أدارتها في الكواليس لتحييد بعض الأطراف الإقليمية عن ممارسة أي إعاقة للاتفاق الإطاري) لعبت دوراً كبيراً في تسكين حراك اعتراض داخلي خجول (رأينا طرفاً منه خلال الأيام الماضية من تحول في اسم تيار “الحرية والتغيير – التوافق الوطني” إلى اسم وتحالف جديد هو “الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية”) ثم رأينا بعد ذلك- فجأة- تعييناً للسيد جعفر الميرغني ابن السيد محمد عثمان الميرغني أحد القادة التقليديين لحزب ينتمي للشمال السياسي القديم الحزب الاتحادي الديمقراطي، رئيساً للكتلة الديمقراطية (التي طالما رفع قادتها كمبارك أردولة، خطاب مظلومية جهوية جأرت بمر الشكوى من رموز السودان الشمالي القديم) وكذلك رأينا تعييناً للناظر ترك في منصب نائب لرئيس الكتلة الديمقراطية، في مفارقة أخرى وضعت الناظر ترك أمام تناقضات حادة حيال اتساقه مع ما كان يؤمن به سابقاً، إذ إن الجهة التي أعلن الناظر ترك، النكير عليها (الجبهة الثورية) واتهمها بجلب مسار شرق السودان من أجل فتنة أهل الشرق، أصبحت هي الجهة التي تعين عليه أن يكون نائباً لرئيس كتلتها الديمقراطية! مما أثار عليه سخط أتباعه السابقين في المجلس الأعلى لنظارات البجا، ووضعه في موضع لا يُحسد عليه.
هذا الإرباك الذي تكشفت عنه الساحة السياسية السودانية وما جرى من خلط لأوراق قوى سياسية عدة تأرجحت وبدت فاقدة للوزن، عكَسَ تماماً موقفها الانتهازي المكشوف مثل تحالف ما يسمى “قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” (الحرية والتغيير- التوافق الوطني سابقاً) الذي تحول من مؤيد للانقلاب طوال العام الماضي إلى معارض شكلي للاتفاق الإطاري الجديد.
وتعكس القوى السياسية اليوم خريطة واضحة، تفسر لنا تحولاتها تأثير المكون العسكري على اللعب ببعض القوى وتحريكه لخيوط تحالفاتها. فإذا ما بدا واضحاً أن الفرز السياسي بعد هذا الاتفاق الإطاري قد أعلن بصورة أساسية افتراقاً متجدداً لخطين سياسيين من قوى الثورة، خط “الحرية والتغيير- المجلس المركزي”، وخط “قوى التغيير الجذري” (تشمل الشيوعيين والجناح الشيوعي من تجمع المهنيين وقوة صغيرة) فإن الخط الآخر (الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية) الذي يضم داعمي انقلاب 25 أكتوبر 2021 أصبح اليوم كما لو أنه في موقف اعتراض حتى مع العسكر (الذين اضطروا بضغط كبير من المجتمع الدولي للتوقيع مع قوى الحرية والتغيير– المجلس المركزي، وقوى الانتقال التي توافقت معه).
مواقف جديدة
لكننا حال التأمل في الوقائع التي جرت الأسبوع الماضي، وبعض التصريحات لبعض قادة “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” أخيراً، مثل تصريح مني مناوي رئيس “حركة تحرير السودان” نجد قوله بحسب موقع إخباري، “طالعنا بيان الاتحاد الأفريقي بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي حث فيه الأطراف على الوصول إلى اتفاق وطني جامع، وفضل أن تعطى للجهود الوطنية فرصة للجلوس من أجل التوافق. نحن على استعداد للجلوس مع الموقعين من أجل إنهاء الفرقة”. وفي الوقت ذاته نجد تصريحاً مشتركاً للناظر ترك ومبارك أردول القيادي بتحالف “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية”، نقله الموقع الإخباري ذاته عنهما “مستعدون لنكون جزءاً من عملية سياسية شاملة وشفافة تؤدي إلى حلول سياسية ديمقراطية ومستدامة”. وفي تقديرنا أن هذا الاتجاه هو نبرة جديدة في خطاب مؤيدي الانقلاب الذين أبدوا اعتراضهم على “الاتفاق الإطاري” في 5 ديسمبر الحالي، فيما هم يعلمون أن الاتفاق الإطاري لم يكن توقيعه مقتصراً على قوى “الحرية والتغيير- المجلس المركزي”، بل شمل قوى سياسية أخرى، سميت “قوى الانتقال”، مثل “حزب المؤتمر الشعبي”، و”أنصار السنة” و”الحزب الاتحادي الأصل”. كما أدرك تحالف “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” أن المرحلة المقبلة لن يتم فيها تمثيل لأي حزب من “قوى الحرية والتغيير– المجلس المركزي” لا على مستوى رئاسة الحكومة ولا على مستوى الوزراء، مع تضمين بنود اتفاق جوبا (الذي وقعه كل من مني مناوي وجبريل) في مشروع الدستور الانتقالي، ما يعكس لنا حقيقة أن الاعتراض من طرف تحالف الكتلة الديمقراطية ربما يعود إلى وضع المحاصصة والمصالح بدلاً من حكومة الكفاءات المستقلة المطلوبة للمرحلة المقبلة.
وإزاء احتواء العسكر للمحاولة الفاشلة لإغلاق الميناء من قبل جماعة فوضوية الأسبوع الماضي بتلك الطريقة السريعة، سيبدو واضحاً بل ومؤسفاً، أن ما كان يجري في شرق السودان على مدى السنوات الثلاث الماضية من مخططات الاقتتال الأهلي بين مكوناته ضمن عمليات شد الأطراف، هو أمر لا يمكن أن نتصور حدوثه من دون تدبير وتخطيط من اللجنة الأمنية في الخرطوم، بعدما وضح لنا تماماً إثر انقلاب 25 أكتوبر 2021 أن حدث إغلاق الميناء على يد ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر ترك الذي استمر 48 يوماً العام الماضي، كان من تخطيط العسكر لإسقاط الحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك وأنه تم فيه استخدام وتوظيف خدمات المجلس الأعلى لنظارات البجا كمخلب لتلك العملية.
اليوم كذلك، كان واضحاً منذ تعيين الناظر محمد الأمين ترك نائباً لرئيس “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” بطريقة مفاجئة وصادمة لكثيرين من أتباعه من حيث اصطفافه مع الجبهة الثورية التي ناصبها العداء لثلاث سنوات، أن ذاك التعيين له علاقة أساسية برغبة العسكر في تحييد ترك عن ممارسة عمله القديم وإنهاء دوره الوظيفي في صناعة الفوضى بشرق السودان، لأن المتغيرات في استراتيجية المجتمع الدولي عبر الرباعية الراعية للاتفاق الإطاري- الذي سيتطور إلى اتفاق شامل ينهي الأزمة السودانية- لا تسمح للمكون العسكري باستئناف ألعاب الفوضى التي ظل يلعبها باستمرار عبر عمليات شد الأطراف طوال السنوات الثلاث الماضية، وبعدما اتضح له استحالة حكم السودانيين، من خلال انفراده بالسلطة طوال عام كامل من الانقلاب عجز فيه عن تعيين رئيس للوزراء يقبل به المجتمع الدولي.
العودة إلى الدور
كل المؤشرات اليوم تنبئ للمكون العسكري بأن الدور انتهى، وأن عسكراً في طريقهم إلى إدارة مهامهم العسكرية في حماية حدود البلاد والدستور هم أفضل من أجل سودان جديد.
وأكبر دليل على هذه المؤشرات تصرفات تحالف “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” المؤيدة للانقلاب، التي ستلتحق بالاتفاق الإطاري في الأيام والأسابيع المقبلة بحسب التقديرات. إن أكثر ما تتكشف عنه أحوال القوى السياسية السودانية المؤيدة للعسكر، والمعسكرات الأخرى بحسب ما رأينا من ردود فعل بهلوانية لتلك القوى على توقيع “الاتفاق الإطاري” هو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل، حول أن قدرة السودانيين على تدبير اجتماعهم السياسي بسوية مستقلة عن أي مساعدة من المجتمع الدولي، الآن وهنا، أمر أصبح ليس بمستطاعهم نتيجة التخريب السياسي الذي ضرب المجال العام وأفسده على مدى 30 سنة من حكم “الإخوان المسلمين”.
هذا لا يعني أنه ليس ثمة إمكانية ما للأمل إذا ما جرت الأمور على نحو جيد في تطبيق بنود الاتفاق النهائي المنبثق عن الاتفاق الإطاري، تحت رعاية المجتمع الدولي، وإذا ما صدقت نوايا السياسيين السودانيين.
بكل تأكيد، إن السقف الذي يطرحه هذا الاتفاق هو المتاح بين القوى السياسية، وهو بإمكانه إذا استمر أن يتيح للسودانيين واقعاً أفضل من الواقع الذي كاد يفجر البلاد في طريق حرب أهلية لا عودة منها بسبب الانقلاب، لا سمح الله.
ورغم قناعة شخصية ترى في عجز السودانيين عن صناعة التسوية الوطنية بأنفسهم وبصورة مستقلة، واقعاً ماثلاً اليوم أكثر من أي حقيقة سياسية أخرى، فإن في هذا الاتفاق الإطاري ما قد يدل على إمكانية القيام بمهمة إنقاذ الوطن.
نقلا من صفحة الأستاذ محمد جميل أحمد على الفيس بوك