يأخذك الطريق الذي يفصل المزاد عن الديم، إلى محطة الكبري، لم يكن هناك كبري، ولم يكن ثمة داعِ له، ولكن أنبوب (اسبستس)، مدفون في تراب أسود لزج، لتصريف مياه الخور، احتسب في مقام الكبري، يظل الطريق في سعيه غرباً، حتى يتلاشى في أفق بعيد، أفق معتكر، يمور بالخلق والحكايا ودينامية يوم الحشر، ونساء يندهن دون ملل، (أب شرا)، و(العليش) و(المكاشفي) و(سيدي الحسن) و(دابي رندا)، والنساء في تلك الانحاء كن (موكو شوكولاتة يايا)! Gitchi gitchi ya ya da da Gitchi gitchi ya ya here Mocha chocolata, ya ya Creole Lady Marmalade كن يسكن أفقاً يحرسه شجر البان العملاق. الشارع، عليه لافتة، بخط بدائي، كتب عليها، (شارع الحب)، والأسم مأخوذ عن أغنية لمحمد مسكين، لم يكتب لها نجاح (أرض المحنة)، في هذا الشارع، وقبيل أن تصل إجزخانة المزاد، يسكن (فرفشة)، والذي ذكر محمد الأمين، بأنه كان يحب، ألعابه على العود، فرفشة مولع بالجلوس أمام منزله، كل مغرب شمس، يجلس محاطاً، بكل افراد اسرته، زوجته حبشية، واولاده وبناته، خليط الأمهرة والزول الأحمر، يحيطون به، كالسوار بالمعصم، فكأنما ينتظرون المصور العائلي، لأخذ صور تذكارية، كانوا مشهداً من لوحة، لابو الحسن مدني. كان فرفشة رجل (احمر)، وشعره في نفس تصفيفة شعر اينشتاين، او (بهجت البهجوري)، لا نعلم من أخذ عن الآخر( (الإستايل)، كان يقذف بالعود في الهواء، في حميا العزف، ثم يتلقاه بذراعيه، ويواصل العزف، قال محمد الأمين الأمين يحدثني، أن هذه (الحركة)، كانت تبهجه كثيراً. محمد مسكين، كان (يتفسح) في ذلك الشارع المترب، علي متن عجلته (الرالي)، يتصيد عبارات الإعجاب، تصله فاترة حيية… يا استاذ، فيجيب بابتسامة، عازف البنقز (حبة سودة) يعبر من هناك، وهو صديق (عركي)، وكان يمنع عنه، اقتحام البنات لخصوصيته عقب كل فاصل أمشن بعيد عركي داير يرتاح شوية وعلى يسار عيادة دكتورة (أسما محمد على زيادة)، الواقعة على جرف الكبري، طاقة مفتوحة في أسفل جدار منزلي، يبيع عبرها (اليماني)، أشهى (طعمية) في العالم بأسره. لم تكن تراه، ولم يكن بأمكانه أن يرى أبعد من ساقيك، ولكنك تحس بلهب الصاج وزيته الذي يغلي، في أسفل جسمك، كان لليماني ولد وبنت، خلاسيين، كحانتين مفروشتين بالرمل. في ركن ضيق، جوار دكان (ابشيبة)، كان الصادق الشيخ، يعزف على بنقز مصنوع من علب اللبن، إيقاع (راح الميعاد وزماني راح)، في كل صبح، تجده في نفس المكان، كان إيقاعاً مبهجاً، ومتنوعاً، كان مثل قطار يسرع عكس اتجاه القضبان، ولكنه يصل إلى هدفه بصورة أو بأخرى، كان عثمان مصطفي يغني لحناً، فصل عليه تفصيلا. في الصيف، تزور الفرقة الحبشية مسرح الجزيرة، كانوا رجالاً، فارعي القامات، ذوي عيون بيضاء كبيرة، كانوا رجالاً ممعنين في الوسامة، كنت تتمنى في سرك، أن تكبر، وأن تدركك لعنة وسامتهم، تقف أمام المرآة، تتأمل وجهك، وتصيح بك أمك من موقعها أنتو حبوبتكم حبشية، إسمها منانة، والله جد. فتقول لنفسك، هاقد جاء الفرج، وتغني فتغني: يا حاجة ما تدقي كاروشة. ود اب رونجة، كان يرقص (الكاروشة)، والتي هي إسم سوداني بلدي، لرقصة Monkey Dance, by Smokey Robinson and the Miracles و(الامايو) يغنيها، سبعة يوم واليوم سنة، فحردها محمد الأمين وللأبد، ولازمته كغصة لم يقدر على نسيانها. ليلى المغربي، كانت تعشق بين اليقظة والأحلام، وكان حمد يغنيها بعاطفة فريدة، وفي السينما الخواجة، وبين الصور المتحركة، كان حمد يغني نقلاً عن (منصفون)، (طفل العيون) والتي عرفت، بكمل جميلك، و شالو الكلام، ودو الكلام، ترقص على إيقاعها، إمرأة العزيز (فرفشة). في بيت خالتي (النظامية)، في الحصاحيصا، ينمو الريحان واللبلاب على كيفهم، في الحوش الواقع أمام الديوان، وعندما يغني ابراهيم عوض، في هذا النسق المعطر بالخضرة، ويقول، ليه بنهرب من مصيرنا، اسمع لأول مرة باسم، ود الحاوي، ثم تتقاطع كل النقاط فجأة، فتعلم أن كل هذه الأغنيات، تعود لمبدع واحد، هو هذا الود الحاوي، (أحلى جارة)، (أسمعنا مرة)، (غاية ألآمال)، (ما سلامك)، (سال من شعرها الذهب)، (وسيم الطلعة)، (ما بقدر أبوح).. ثم يندان الكتالوج الغنائي، حتى يدرك فيضه (الحوت) فيغني، (ظالمني شوف من كم سنة)! ثم رأيت (ود الحاوي) في مسرح الجزيرة، فارعاً بهياً مثل أعضاء فرقة (الامبراطور)، كان يعزف الأكورديون، واقفاً، عزف (عزة الفراق بي طال)، فعلمت مثلما يحدث في الفتح والكشف، أن هذه البصمة، تعلمها أذني وحواسي، فهي التي جملت كل أغنيات الستينات والسبعيات المسجلة في الإذاعة، ( شمعة)، (لو تصدق)، (أخادع نفسي في حبك)، وكل أغنيات (ابراهيم عوض) تقريباً، ( لو مشتاق حقيقة)، وعند زيدان ( بالي مشغول)، ولهرم الأغنية السودانية عثمان حسين (تسابيح)، و فيوض من الروائع. كم من النساء (الموكو شوكولاتة يايا) تمايلن على إيقاع هذه الروائع؟ كم من أجيال الأطفال الخلاسيين، أنجبن في جنون هذه الاندياحات العاصفة؟ وكم من الرجال، الذين وفي لحظة ضعف إنساني دقو ( زي العجب)، الكاروشة! ودالحاوي ثروةلم ندرك ابعادها بعد ديسمبر 21