في أجواء محفل دولي بهيج جرى إختتام مونديال قطر في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢ بعدما أجمع شهود عيان وعدد من المراقبين على أن الدوحة صنعت وأخرجت نسخة متميزة ومتفردة بسماتها على امتداد تاريخ منافسات كأس العالم لكرة القدم منذ اطلاق أول بطولة في العام ١٩٣٠.
مباراة الاختتام جاءت في مستوى الحدث وعظمة الترتيبات، وكان الختام الأرجنتيني الفرنسي برائحة المسك والعنبر ، الذي يطبع ويترك أثرا وتأثيرا مذهلا وحيويةوجاذبية ممتعة في نفوس البشر . .
تألق المبدع ليونيل ميسي ورفاقه وانتزعوا كأس العالم للمرة الثالثة من أوروبا وعادوا بها من الدوحة الى أميركا الجنوبية بعدما عزفوا سبمفونية رقصت معها المدرجات وقلوب المشاهدين ،و في الوقت نفسه قدم المنتخب الفرنسي العملاق أداء بطوليا ، اذ صمد وانتزع التعادل بشكل مدهش ،وأخيرا انتصرت الأرجنتين بضربات الجزاء ٤ – ٢ بعدما تعادل الفريقان ٣ مقابل ٣ في مباراة ممتعة ومثيرة وشائقة.
مونديال الدوحة أبرز اشراقات وحقائق عدة ، هنا بعض ما اخترته من عناوين .
أولًا : قطر حققت نجاحا سياسيا ودبلوماسيا وأمنيا واجتماعيا واعلاميا وثقافيا، واقتصاديا ، واجتازت تحدي الاستضافة، وحملات شرسة ، وهي الدولة الصغيرة المساحة ، وقليلة عدد السكان ،وقد وفرت لضيوفها مناخ العيش الكريم والرعاية والأمن والطمأنينة وما أحب أن أسميه مناخ التنفس الطبيعي .
ثانيا: المونديال في دولة محافظة ومتمسكة بمعادلة الأصالة والمعاصرة يشكل أكبر وأخطر التحديات في منطقة الخليج والعالمين العربي والاسلامي ، لكن الدوحة تمسكت بقوة وثبات بثقافتها، وثقافة المنطقة وبقيم العروبة والاسلام الرفيعة ،وقدمت للآخرين وجها حضاريا يوازن بين احترام ثقافة شعبها والمنطقة، وبين احترام ثقافة الآخرين، وهذه معادلة يصعب احتمالها في دول عدة،وهذا تمرين مهم للمجتمع أيضا ودرس لمن يحب التأمل واستخلاص الدروس والعبر .
وفي هذا السياق،وفي لفتة ذات دلالات وطنية وثقافية وتاريخية قام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني باهداء والباس ميسي (بشت ) وهو عباءة يرتديها الرجال في قطر ودول خليجية وعربية ،ويرمز الى الرجولة والوقار والشهامة والوسامة والأناقة أيضا.
ثالثا؛ مثلما سجلت الحكومة القطرية منذ سنوات عدة انتصارا للمرأة القطرية التي خاضت الانتخابات البلدية في ٨ مارس ١٩٩٩ ، ثم انتخابات مجلس الشورى في الثاني من أكتوبر ٢٠٢١ ، وهي الأولى من نوعها وجرى تنظيمها في عهد الأمير تميم تطبيقا لبند في الدستور الذي تمت اجازته بعد استفتاء عام الشعب جرى تنظيمه في ٢٩ أبريل ٢٠٠٣ فان حواء القطرية والخليجية والعربية والأفريقية والآسيوية والغربية وجدت في المونديال ساحات واسعة للمشاركة الايجابية النافعة .
سجلت المرأة من دول عدة حضورا حيويا في مواقع المونديال وخصوصا على المدرجات ،حيث جرى أيضا احترام ثقافة شعوب تعشق الرقص الشعبي والغناء في اطار التشجيع لهذا الفريق أو ذاك ،وخصوصا أهلنا الأفارقة عشاق الرقص الجميل.
رابعا: مناخ الدوحة شهد مشاركة منتخبات عربية في منافسات المونديال، وكانت مشاركتها ايجابية وحماسية وأظهرت نجوما ومبدعين كمنتخبات المغرب والسعودية وتونس، ودول أفريقية مؤهلة لتشق طريقها بنجاح في عالم المنافسات الدولية.
خامسا: الشعوب الخليجية والعربية التي شهدت المونديال في الدوحة او تابعت وقائعه عبر الشاشات من دولها عبرت عن مشاعرها الطبيعية، في المدرجات أو وسائل تواصل اجتماعي بتلقائية، ومن دون تأثير للخلافات السياسية التي تجاوزها الحكام خصوصا بعض الشعوب الخليجية والعربية التي كانت حكوماتها في حال خصام وحصار ومقاطعة للدوحة قبل أن تطوي قمة ناجحة في السعودية ملف خلافات في العلاقات بين السعودية والامارات والبحرين ومصر من جهة، وقطر من جهة أخرى .
هذا معناه أن مونديال الدوحة شكل رئة تنفس طبيعية لشعوب في المنطقة كانت مخنوقة بتأثيرات الخلافات السياسية في وقت سابق، وهذا يعني أيضا أن قادة الدول الخمس قد خطوا خطوات ايجابية، أدت الى انفراج الأجواء ، وانتصروا بذلك لحقائق التاريخ والجغرافيا ونبض الشعوب ولهذا يستحقون جميعا التحية.
سادسا: لم تكن الصحافة الخليجية والعربية والاعلام الحكومي في الدول الخمس بعيدا عن التأثيرات الايجابية لروح الاتفاق الذي تم في السعودية وبدعم كبير منها، اذ أنعم الله على الاعلام في الدول الخمس وعلى بعض زملائي الصحافيين والكتاب بأن ساد مناخ الود والتلاقي بين بعض الحكام فاختفت حملات شديدة وقاسية تبادلها طرفا الصراع خلال سنوات الأزمة .
في أجواء المونديال سادت روح العمل الاعلامي الرصين والمحترم والمهني البعيد عن الشتائم والتشويه والتجريح والسباب،وهكذا شكل مونديال قطر فرصة للجميع للاطلالة بنبض اعلامي سادته روح رياضية طيبة .
سابعا: مونديال الدوحة رغم انه كرنفال رياضي دولي لكنه ليس بعيدا عن السياسة والدبلوماسية.
أرى أن قرار قطر بخوض منافسة شاركت فيها دول كبرى للحصول على حق الاستضافة كان قرارا سياسيا جرئيا وشجاعا وعبر ويعبر عن ارادة سياسية ورؤية دبلوماسية ،ولهذا فان السعي لاحتضان المونديال -كما كتبت في مقال نشرته في ٢٠ سبتمبر ٢٠١٠ بعنوان (دلالات السعي القطري لاستضافة كأس العالم ٢٠٢٢ – كان نتاج رؤية وارادة سياسية، وهذا يستوجب الاشارة الى أبعاده .
ثامنا: ما أكد العلاقة بين مونديال قطر والسياسة تجسد في أن ان الدوحة تحولت في يوم الافتتاح الى ساحة لتلاقي قادة سياسيين وجدوا في العلاقة مع الدوحة ومناخها وأجواء المونديال فرصة للتلاقي والعناق .
مثلما شكلت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى الدوحة وحضوره حفل الافتتاح ولقائه الودي اللافت المشحون بمشاعر دافئة وواضحة وحرصه والأمير تميم على التعبير في الهواء الطلق عن التفاعل المتبادل والدعم لفريقي البلدين فقد أكدت هذه التفاعلات ما أشرت اليه في مقال عشية افتتاح المونديال اذ قلت أنه ينطلق في ظل أجواء خليجية ايجابية تستحق الاشادة والدعم .
وجاء لقاء الرئيسين المصري والتركي عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان في الدوحة في يوم افتتاح المونديال ليعكس أيضا دور الدبلوماسية القطرية و الرياضية في تقريب وجهات النظر لمعالجة مشكلات،اذ ساهمت الدوحة بدور مهم وحيوي في هذا اظهار التطور الايجابي في علاقات مصر وتركيا،وهذا يحسب للسياسة والدبلوماسية القطرية، ويؤكد مجددا أن قطر منفتحة في علاقاتها ،ما أدى ويؤدي الى أن تكون الدوحة منصة انطلاق لعودة الدفء في علاقات عدد من دول المنطقة .
وفي اطار التطورات الايجابية زار أيضا رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد، الدوحة، خلال أيام المونديال، و للمرة الأولى منذ سنوات عدة ،والتقي الأمير تميم ،وجرى بحث العلاقات وآفاقها المستقبلية،ومعلوم أن علاقات البلدين شهدت توترا شديدا خلال السنوات الماضية .
تاسعا: أكدت تفاعلات المونديال أن المقيمين في قطر من مختلف الجنسيات ،عربية وأفريقية وآسيوية وغيرها ،دعموا المونديال بقوة وتفاعلوا مع الحدث وزينوا أروع لوحات التفاعل مع القطريين ،وهذا الموقف ليس جديدا .
عشت في الدوحة لأكثر من ثلاثين سنة وعملت صحافيا هناك وفي مواقع مسؤولية في صحيفتي العرب(رئيس القسم السياسي) والشرق( رئيس القسم الدبلوماسي) ووكالة الاعلام الخارجي(مساعد مدير تحرير ) ووكالة الانباء القطرية بالمسمى الوظيفي كما كان في وكالة الاعلام الخارجي بعد دمج الوكالتين الى جانب عملي مراسلا لصحيفة (الحياة) اللندنية واذاعة مونت كارلو الدولية وقناة (ال بي سي) وقد اتاح عملي صحافيا في تلك المؤسسات أوسع فرص الاطلاع ًعلى أوضاع الجاليات والمقيمين .
طيلة تلك الفترة كنت صحافيا ميدانيا يمشي بين الناس ولا أجلس في مكتب ،أي تفاعلت مع مقيمين ومسؤولين قطريين ودبلوماسيين وسفراء قطريين وخليجيين وأوروبيين وأميركيين وغيرهم، وأعرف تفاعلات كثيرة .
الجاليات الموجودة في قطر متميزة وتضم كفاءات ، هناك بشر يحملون في قلوبهم وعقولهم محبة ووفاء لقطر وقادتها وشعبها،وتلك العقول والسواعد تستحق الاشادة والتقدير وتعزيز دورها في خدمة المجتمع وحل مشكلاتها في اطار علاقة متوازنة تقابل الوفاء بالوفاء والمحبة بالمحبة، وقد بدأت خطوات تشريعية واجراءات في هذا الشأن .
في هذا السياق ألاحظ منذ نحو أربع سنوات أن أمير قطر الشيخ تميم بات يوجه في خطاباته وتصريحاته التحية ل(المقيمين)وكنت أشرت الى ذلك في مقال نشرته في نوفمبر ٢٠١٩ بعنوان (الرياضيون الخليجيون قادمون تمهيدا للسياسيين).
قلت أن حديث الأمير عن (المقيمين) يعكس لغة جديدة في المنطقة وغير مسبوقة خليجيا ، وأنه موقف أخلاقي ومحترم وينسجم مع حقوق الانسان وقيمها العالمية .
أحدث تطور في هذا الشأن جاء في تهنئة الأمير الى شعبه في ذكرى الاحتفال باليوم الوطني الذي يصادف الثامن عشر من ديسمبر من كل عام،أي في يوم اختتام المونديال، وقد جرى الاحتفال هذا العام بشعار ( وحدتنا مصدر قوتنا) وهو مقتبس من خطاب للأمير ، وكلمات الشعار الثلاث مهمة وتعكس كيفيات التفكير .
تميم وجه التهنئة في هذه المناسبة للقطريين والمقيمين،اذ قال (نبارك لشعبنا والمقيمين على هذه الأرض الطيبة بمناسبة يومنا الوطني، الذي يصادف هذا العام أجواء احتفالية مع ضيوف قطر من شتى أنحاء العالم في ختام بطولة كروية عالمية واستثنائية. كل عام وقطر في عز ورفعة، وأدام الله على بلدنا الأمن والأمان والاستقرار).
هذا نبض جدير بالاحترام ويعبر عن روح انصاف ووعي ووفاء وتقدير ،ومن دون شك سينعكس ذلك ايجابا في أوساط المجتمع ومؤسسات الدولة ،ما سيخلق رأيا عاما مستنيرا وواعيا بحقوق المقيمين ويحترم انسانيتهم وأدوارهم في خدمة المجتمع .
عاشرا: أعتقد بأن المونديال أدخل قطر في مرحلة جديدة وهي واعدة لكنها لا تخلو من تحديات في سياق أدوارها ومكانتها الاقليمية. و العالمية المتميزة ، وهذا سيضع على كاهل القيادة و
المسؤولين مسؤوليات اضافية في اطار سعيهم المستمر. لارتياد آفاق العصر .
أرى أن من أهم الأولويات أن تستمر الجهود لتنطلق خطوات اصلاحية وتشريعية جديدة ، في اطار بناء وتقوية بنيان واركان دولة المؤسسات وتعزيز فاعليتها في كل المجالات.
قناعتي أن قطر ستنطلق في ميادين البناء الداخلي أكثر من أي وقت مضى، بعد المونديال ،وبثقة تستفيد من التجارب الناجحة والدروس المستخلصة منها ،وأيضا من الأزمات والمرارات والتجارب والسياسات الفاشلة ، وأيضا من الانتقادات الموضوعية والحملات الحاقدة ،لأن الحياة هي مزيج من النجاح والفشل، سواء على مستوى الفرد أو الحكومات في العالم كله .
هذا يعني أن من يبني على الايجابيات ويراجع ويصحح ويتدارس الأمور كافة في سبيل احراز مزيد من النجاح ستقوى خطاه على طريق احراز انتصارات متواصلة، وقيادة قطر مؤهلة لخوض تحديات الحاضر والمستقبل بارادة ووعي بمقتضيات العصر .
برقية: مبروك من الأعماق للقطريين قيادة وشعبا والخليجيين والمقيمين والعرب والأفارقة وللأرجنتين وفرنسا وكل المشاركين نجاح المونديال الباهر .
لندن ١٩- ١٢-٢٠٢٢