(يلقي هذا المقال الضوء على جهادنا من أجل الديمقراطية منذ الاستقلال ليؤطر لاستبعاد الفريق أول ركن عبد الفتاح برهان رئيس مجلس السيادة من القمة الأفريقية، ولفهم سياسات أمريكا حيال مطلب السودانيين اللهيف بالدولة المدنية الديمقراطية لسبعة عقود متصلة)
لم يكن الفريق عبد الفتاح، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، ضمن قادة أفريقيا الذين توافدوا إلى مؤتمر القمة الأمريكي الأفريقي في الأسبوع الماضي. فاستبعدته الإدارة الأمريكية، ضمن أربعة رؤساء أفارقة آخرين، عن المؤتمر لمجيئه الحكم بانقلاب عسكري مع حرص أمريكا الرسمية ألا تصف انقلابه إلا ب”الاستيلاء العسكري على الحكم”.
يرسل موقف أمريكا من انقلاب 25 أكتوبر، الذي حمل البرهان للحكم فردا، رسالة بليغة للديمقراطية السودانية. فسبق للرئيس بايدن ذكر حسن للثورة السودانية ودور النساء فيها في قمة للديمقراطية عقدها في واشنطون قبل عام في ديسمبر 2021. وحجب البرهان عن القمة الأفريقية، من جهة أخرى، مطابق لموقف الكونغرس الأمريكي الذي أجاز قبل أكثر من عامين قانون الانتقال الديمقراطي في السودان. وهو وثيقة نادرة لا أعرف أن سبق إليها في بلد آخر. فلم يترك القانون فرضاً ناقصاً في دعم ذلك التحول المدني في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر. وفصّل في عقدة المسألة وهي استبعاد القوى النظامية من حقل الاقتصاد والعقوبات التي ستطال من يعترض سبيل الانتقال.
يستغرب المطلع على تاريخ السودان الحديث لهذه العزيمة الأمريكية حيال السودان. فيستغرب هذا المطلع أن كيف صار البلد المتهم بأنه كان من وراء أول انقلاب في السودان في نوفمبر 1958 بعد عامين من استقلاله حادياً للديمقراطية فيه. وروج للتهمة الشيوعيون على بينة انقلابات في بلاد أخرى كتايلاند سبقت وكانت أمريكا من ورائها بلا ريب. واشتهرت بين الناس قصيدة للمعلم النقابي شاكر مرسال عن دور أمريكا في الانقلاب. فخاطبت قادته بأن نظامهم “ولد سفاحاً فما أنت حر”. وأنه مما ركبه “رعاة البقر” وسيلقى مصيره ولو كان “ربه ايزنهاور”.
ولم يثبت بعد دور أمريكا في انقلاب 1958 على التعيين. فأقصى ما انتهى إليه البحث أنها كانت سوياً مع بريطانيا تعقد في الحلال بين أحزاب رئيسية للخروج بالسودان من أزمة سياسية كانت ناشبة به. وبالطبع لم يدرأ التهمة عن أمريكا أن حكومة الانقلاب قبلت في أول قراراتها بالمعونة الأمريكية وثيقة الصلة بمشروع أيزنهاور الذي وعد بنشر مظلته الأمنية على الدول التي تخشى على نفسها من الاتحاد السوفيتي. وكان رفض المعونة ومنطوياتها قضية معارضة سياسة غاية في القوة سبقت الانقلاب.
ولم تول أمريكا الديمقراطية السودانية اعتباراً بعد تحول الرئيس الانقلابي جعفر محمد نميري (1969-1985) إلى رم علاقته مع أمريكا بعد مغامرته اليسارية وفصاله عن الشيوعيين في 1971. ودخلت أمريكا بذلك في طور ما يعرف ب”إدارة الديكتاتور” في شرط الحرب الباردة. فوصفت نميري بأنه “صديق وشريك مهم”. فبإدارة الديكتاتور تكسب أمريكا من الحلف في حين تحاول هدايته إلى حكم أقوم. فعقدت حلفاً معه ومصر في مواجهة منظومة ضمت العقيد القذافي والأثيوبي منقستو هايلي مريم ممن كانوا حلفاء للاتحاد السوفيتي. أما من جهة هداية أمريكا للديكتاتور فكان يزعجها من نميري نفوره من ضمان بقائه في الحكم بمصالحة وطنية. كما أزعجها اطراد تحوله إلى الحكم بالشريعة الإسلامية. وهو تطرف جالب الحرج لأمريكا لأنه يحمل الجنوبيين في السودان، الموصوفين بالتدين بالمسيحية، على التحول عن دينهم.
وسرعان ما تجددت الحرب الأهلية في 1983 بعد عقد من السلام أعقب اتفاقية أديس أبابا مع القوميين الجنوبيين (1972). وهي الاتفاقية التي فضها نميري من جانب واحد. ولا أعرف عبارة في المتاعب المترتبة على إدارة الديكتاتور مثل قول دبلوماسي أمريكي لمن انتقدوا بلده لجنحوها لنميري في مغرب دولته بخروج الشعب عليه في مارس 1985: “إذا كان يتحتم علينا أن نقصر دبلوماسيتنا في أفريقيا على الدول ذات النظام الديمقراطي فلن يكون لدينا الكثير من الدبلوماسية”.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu