العالم أحمد دقاش
انتهت فعاليات كأس العالم 2022م الذي نظمته وأدارته دولة الإبداع والجرأة والثقة بالنفس قطر الرائدة، فكان منظومة انجازات متفردة، من بداية الافتتاح في استاد “البيت” البديع، حتى حفل الختام الأخير في استاد “لوسيل ” ا لرائع.
لشهر كامل اختار العالم أن تكون دوحة قطر الوريفة عاصمة له، وهي تحتضن المشاركين من كل قارات العالم بثقافاتهم المتنوعة، ودُهش كثيرون وهم ينظرون بإعجاب كيف أرست قواعد هذا المجد والعز وكرم الضيافة، فكان نجاحها فخراً لكل الخليج والعالم الثالث.
وبفقه موضوعي لم يحد عن الثوابت، مقبول لدى الآخر المشارك بمختلف ثقافاته ومعتقداته عمل أُسس على قاعدة “لا أعبد ما تعبدون .. لكم دينكم ولي دين …” شيء عظيم. فالمستضيف لم يلغ ثوابته مع تسامح كبير. ألم يسمع الحضور والمشاهدين أذان الصلاة عند حلولها .. ألم يلغ استخدام الخمور، وهو من شروط الاستضافة لدى “الفيفا ” مع تحمل الشرط الجزائي المالي في ذلك، كأنه يقول للمشاركين في المونديال صوموا عنها خلال هذه الفعاليات، وستعودون إلى بلادكم وأنتم أكثر صحة وعافية، في الروح والبدن وأكثر تفهماً وفهما لمقاصد معتقدنا العظيم. فكانت تلك رسالة عظيمة استوعبها العالم عبر منصة محبي المستديرة.
كأس العالم تعودنا مشاهدته والاستمتاع به كل أربع سنوات، لكن هذه المرة كان غير. لماذا؟ لأننا أصبحنا جزءاً من القرار في التنظيم والإدارة، وكل التفاصيل من خلال الدولة المضيفة.
وكنا أكثر قرباً وإلفة لثقافة أمريكا الجنوبية اللاتينية / واليانكي في أمريكا / وروما القديمة وملكية الانجلوساكسون، وتقاليد باريس العريقة، والفايكنج في اوربا، بل على حميمية مع اكلة السوشي في الشرق القصي، واكتسبنا إحساساً جميلاً، ونحن نفخر بالقادمين من أدغال افريقيا الجميلة، التي أصبحت تزين أغلب فرق الوفود الرياضية.. وتم استقبال الجميع بكرم ضيافة القهوة العربية والتمر برمزيتها ودلالاتها الاجتماعية. كل ذلك جعلنا نحس أن تنظيم فعاليات كأس العالم في قطر الجريئة قد حقق نقله نوعية، وأوجد صورة ذهنية إيجابية عن بدو وشيوخ البترول، فكان حواراً حقيقياً للحضارات والثقافات تجاوز بموضوعية ما نادى وقال به البعض عن” صدام الحضارات ” المبني على نظريات الحتميات التاريخية.
في عام 1995م صدر كتاب صدام الحضارات (The Clash Of Civilization) للفيلسوف “صوميل هنتنجتون” أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، الذي بني طرحه على فرضية انتهاء الحرب الباردة بين القطبين، وحتمية الانتقال من الصراع الايديولوجي أو الاقتصادي بين أغنياء الشمال / وفقراء الجنوب، إلى صدام بين الحضارات والثقافات، وذلك ليس بجديد. فقد سبقه في التنظير لمثل هذه المفاهيم، أيضاً المفكر الأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما في أطروحته التي تقول “بنهاية التاريخ والإنسان الأخير بسيادة النظام الليبرالي”، وفي هذا الطرح تعقيدات ومحاذير منظورة وغير منظورة تعامل معها أصحاب الثقافات الأخرى بريبة.
وفوكوياما يعد من المحافظين الجدد الذين رفعوا مذكرة إلى الرئيس الأسبق جورج بوش تطالبه بإسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، وذلك يناقض الدعوة إلى الليبرالية.
قاد هو وهنتنجتون توجهًا أحادياً خطيراً، وإن تناقضت عناصره ومنطلقاته، لكن يجتمع على التنظير لإدارة شؤون العالم، من كواليس أمريكا التي تفرض نفسها لتكون مركزاً لإدارة الكون متجاهلة حضارات الآخرين ، التي أيضاً لها قوتها الثقافية والاقتصادية ،كالصين التي دخلت الى ميدان اللعبة بقوة اقتصادية جاءت تتقرب إلى الشعوب، وفي يدها قفاز من حرير وهي تسوق نفسها من خلال لعبات هذه الشعوب، وفنونها وثقافتها، ولا تتحرج في إعادة إنتاج ثقافاتهم بفهم وذكاء لتخرج لنا لعبة “شدت والشليل وينو ” تعكس تصالحاً اجتماعياً بين الشعوب. عكس الحضارة الغربية الامريكية التي تفرض على الآخر ثقافاتها من خلال لعبات “اسبايدر وبات مان”، بل تفرض علينا أن تتكلم لغتهم مجبرين، والتركيز على كلمة Yes، ودون أن تكون معها مفردة No.
مقابل كل ذلك، تصدّت لهذه الهيمنة والغطرسة رؤى ومفاهيم على النقيض، وبمنطلقات وأخلاقيات إنسانية تقوم على مفهوم مختلف تماماً، طرحها أيضاً المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي (الذي تسمى برجاء جارودي). والتي تنادي وتقوم على فلسفة الدعوة إلى “حوار الحضارات ” وتفهم الآخر.
وروجيه جارودي عالم باحث اجتماعيات ولاهوت تنقل بين الكاثوليكية والماركسية الشيوعية وانتهى به بحثه عن الحقيقة إلى الاسلام. فأصبح ناقداً قاسياً للحضارة الغربية المادية. فهو يدعو الى إعادة الايمان إلى قلوب البشر والتسامح والتلاقح الثقافي بالحوار بين الشعوب لتحقيق الاستقرار والسلام من أجل تعايش إنساني حضاري حر.
دعونا نقول إن مخرجات تنظيم فعاليات كأس العالم في قطر بهذه الروعة والدقة والتسامح المتبادل في الأفكار والمفاهيم، قد هزّت كثيراً من مسلمات الهيمنة، وعززت فكرة حوار الحضارات. ولمقبولية ومعقولية هذا الطرح الذي دخل أروقة الأمم المتحدة منذ مدة، فاقتنعت الأمم المتحدة وقررت أن يكون 2001 م عاماً لحوار الحضارات.
عندما نتحدث عن هذه الجرأة والثقة في النفس التي أثمرت إدارة ونجاح مونديال كأس العالم في دوحة قطر 2022م، والذي ربما جسد توجه حكام الخليج الشباب ممثلاً في رؤية السعودية 2030 و ليبرالية دبي في البزنس والانفتاح وكثير من المبادرات والمقومات الأخرى لدى بعض الشعوب العربية والأفريقية والآسيوية، كل ذلك يبشر بدخول لاعبين جدد إلى ملاعب العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية م نيولوك New look)) التي اصطلح على تسميتها بالعولمة، بثوابت لها بعد ثقافي وحضاري تاريخي ، وبفهم أود أن أكون مساهماً وليس مستهلكاً فقط لمنتجات العولمة.
فإذا كان الامر كذلك، فلماذا لا نسعى بإرادة قوية لتطوير منصة “الفيفا” لتكون منبراً ينطلق منه حوار الحضارات؟ ولماذا لا يفُعل ويدعم هذا التوجه. ولنا في تجربة قطر الناجحة التي إعادة بناء الثقة بالنفس من جديد، وأكدت أنك تستطيع أن تحلم وتحلم حتى ترى حلمك واقعاً، ولا مستحيل، فهل لنا أن نقدم مبادرات لصنع الأحداث؟
ومن عندي أقول نعم …دعونا نحلم ونحاول؛ حتى يكون الحلم واقعاً.