عندما قدمت لصحيفة السوداني من صحيفة الخرطوم رئيساً لقسم الفنون والمنوعات، علمت أن هنالك رجلاً (قاتل) في اجتماع التحرير من أجل أن أنال هذه الوظيفة، وذلك دون سابق معرفة بيننا، وكان الرجل هو الجنرال أحمد طه الذي كنت أرتعد من وصفه، وسيرته، وصرامته المهنية.
قال لي بعد ذلك إنه متابع مجهودي ومجهود أستاذي الزبير سعيد في تحرير صفحات الفنون والمنوعات بطريقة جادة وجذابة في الوقت نفسه، وإنه متابع لآرائنا في الموضوعات الفنية والثقافية، فأشفقت على نفسي من تجربة جديدة يراقبها ويشرف عليها هذا الرجل.
بمرور الوقت تعرفت إليه بشكل تلقائي من خلال الملاحظات والتعليقات والتكليفات، ثم اختارني محرراً أوحد، وسكرتيراً لتحرير العدد الأسبوعي في صحيفة السوداني، الذي يصدر صباح كل جمعة، وكان صحيفة داخل صحيفة.
كان الجنرال يعلم تماماً أنه لا يحرر ملفاً ثقافياً بالمعنى المعروف، فالصحيفة بها ملف ثقافي متميز جداً يشرف عليه، ويحرره الأستاذ الشاعر الكبير الصادق الرضي، ويمتاز ملف الرضي بالرصانة المفرطة، والتدقيق العميق في المواد المنشورة شكلاً ومضموناً، وكان مجاله الأدب من شعر، وقصة، ورواية، ونقد، وتشكيل، ومتابعات لما يدور في الساحة الثقافية.
أما العدد الأسبوعي الذي يشرف عليه الجنرال-عليه رحمة الله- فقد كان ميدانه الثقافة السودانية من زاوية التاريخ الاجتماعي، ويعتمد على المقالات أكثر من المواد التي يتم تحريرها، وفقاً لمعايير العمل الصحفي المعروفة، وظل الملف الأسبوعي يطرق مجالات مسكوت عنها في تاريخ السودان الاجتماعي والثقافي والرياضي.
اهتم الجنرال في عدده الأسبوعي بالمدن، والأحياء، والشخوص، والأماكن التاريخي،ة وأظهر أبطالاً أغفلهم التاريخ والحاضر ففتح بذلك دروباً واسعة للمستقبل، وكان ذكياً، وذا أفق واسع، ومعرفة بتاريخ القبائل والأنساب والمدن (الحسناوات) يتغزل فيهن كما يفعل الشعراء مع النساء.
وفي المدن السودانية عشق مدينة كسلا التي نشأ فيها، فكتب عنها بكل الحب والموضوعية، ولم يجعله عشقه (الأعمى) يخرج من معطيات الحقائق، وديباجة التاريخ، وارتبط أحمد طه بكسلا ارتباطاً وثيقاً، وكان يسافر إليها كثيراً، وتعمقت صلاته الاجتماعية بأهل كسلا الموجودين بكل أنحاء العاصمة، فلا يفوته عقد زواج أو تشييع جنازة.
وفي الفترة الأخيرة أصبح شبه مقيم بكسلا، بل إنه ظل يقدم برنامجاً أسبوعياً في فضائية كسلا، يستضيف فيه نجوماً منها، أو مبدعين، ومفكرين يتحدثون عنها، ولم أندهش عندما علمت بأن جثمانه سيوارى في ثرى كسلا، على الرغم من أن وفاته حدثت بمستشفى فضيل بالخرطوم.
امتلك أحمد طه الجنرال كثيراً من المواهب، في مقدمتها الحديث المؤسس المرتب المبني على الحقائق، والمقدمات التي تقود إلى نتائج منطقية، واكتسب ذلك من صفة لازمته طوال حياته، وهي التدقيق والتوثيق لكل ما يقابله من حقائق ومعلومات و(حكايات).
إضافة إلى ذلك، فهو كاتب مجيد ومجود، وشاعر، ورسام، وعازف موسيقى، وقد لا يعلم كثيرون أنه عزف في صباه الباكر على آلة الكمنجة خلف الفنان عبد الرحمن عبد الله، عندما كان طالبا في مدينة الأبيض، وهو ناقد بصير في شؤون الكتابة والصحافة والفن.
ولعل الجنرال اكتسب عدداً من الصفات من العسكرية، التي تخرج فيها ضابطاً، ووصل إلى رتبة قائد منطقة، ثم أحيل للصالح العام في عام 1991م؛ لكونه لا ينتمي لطغمة الإسلاميين التي استولت على كل مفاصل حياتنا وأفسدتها.
ويعدّ الجنرال أحمد طه واحداً من الذين يمكن وصفهم (بالمؤسسة الثقافية)، من دون أن يطرف الجفن، فقد أفنى سنوات عمره في خدمة الثقافة السودانية في كل مناحيها؛ عبر الكتابة، والتوثيق، والحديث في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والمنتديات والندوات في العاصمة والولايات، وجمع حوله مثقفين ومبدعين ينتمون لكل المدارس الفكرية والمذاهب الفنية، وكان يجمعهم الهم الثقافي وترسيخ قيم الثقافة السودانية الأصيلة.
يوم السبت 30سبتمبر 2017 وضع الجنرال سلاحه، ونفض محبرته، وقال كلمته، ومشى! وكان لا يخاف الموت أبداً، وسمعته أكثر من مرة يقول: إنه استمتع بحياته كما ينبغي، وإنه ينتظر الموت بكل أريحية.
نسأل الله أن يشمله بواسع رحمته، فقد قدم وخدم وطنه بالفكر والسلاح، ونأمل من تلاميذه – وأنا منهم – أن يتولوا توثيق كتاباته، وطباعتها، فهي إضافة نوعية للمكتبة السودانية، وأتمنى أن تخلّده مدينة كسلا بإطلاق اسمه على صرح ثقافي يكون امتداداً لما ظل يقوم به في حياته.