“أدب الهَمّبَاتة” لا يصلح أن يكون “خط دفاع” في محاكمة نظام خرج ضده الشعب السوداني كله، وأطاح به في أعظم ثورة شعبية أشاد بها العالم.
في كامل زيه وهندامه، وقف الرئيس السابق عمر البشير أمام منصة المحكمة، الأربعاء الماضي، ليلقي خطبة طويلة بثتها الفضائيات السودانية والعربية على الهواء مباشرة، لم يكتف فيها بنفي التُهم التي قدمها الادعاء فحسب، بل عَدّد إنجازاته وما يعتبره دَيناً على عنق الشعب السوداني لنظامه المطاح به شعبياً في أبريل 2019.
بلغة الجسد والسرد الطويل الذي خطط له محاموه بدا وكأن الرئيس المخلوع يعاقب – لا يعاتب – الشعب الخالع على ما اقترفه الشعب في حقه، فتتحول الثورة إلى خطيئة، والبطولة إلى الجريمة.
ومثل هذا النوع من الخطابة له تأثيره الشعبي اعتماداً على إرث قديم في المجتمع السوداني يزن القيم بمعيار “أدب الهمباتة”.
“الهمباتة” مصطلح سوداني أطلق على مجموعات من قُطّاع الطرق استمرت تقترف هذه الجرائم منذ ما قبل العهد التركي في السودان إلى ما بعد الاستقلال، تمارس سرقة الإبل، بالتحديد الإبل لا غيرها، في الصحاري والسهول والجبال في مختلف أنحاء السودان، واشتهرت منهم أسماء وصلت درجة “النجومية” منهم طه الضرير والطيب ود ضحوية وآخرون.
كان لهؤلاء “الهمباتة” التزام قاطع بالاكتفاء فقط بسرقة الإبل دون المساس بأصحابها، إلا إذا حاولوا حمايتها ومنعهم من سرقتها.
واشتهر “الهمباتة” بالمظهر الأنيق الوثير، يرتدون أجمل وأفضل الثياب، وعُرفوا بالفصاحة والقدرة على ارتجال الأشعار التي لا تزال محفوظة في التراث الشعبي السوداني وتحتشد في دواوين شِعر كبيرة.
كان “الهمباتة” يبررون لإجرامهم بأنهم يأخذون من أموال الأغنياء ليردوها على الفقراء، ويستدلون على ذلك أنهم ينحدرون من بيوت مُنعّمة وأنساب فخمة، وأنهم لا يعتدون على امرأة ولا رجل ضعيف.
“أدب الهَمّبَاتة” جعل الجريمة بطولة، وأصبح كثيرون يتمثلون بشعرهم بل وتفتخر السلالات بالانتساب إليهم، فالصورة الذهنية المجتمعية تربطهم بالقوة والشجاعة والإقدام والكرم، كونهم يسطون على ما لا يملكون ليمنحوه لمن يرونهم ضعفاء أشبه بقول الشاعر:
يجود علينا الأكرمون بمالهم.. ونحن بمال الأكرمين نجود
مع الفارق؛ فالأكرمون لا يجودون لـ”الهمباتة” بإبلهم، بل يسرقونها منهم عنوة واقتدارا بحد السيف.
“أدب الهَمّبَاتة” أقرب صورة للخطاب الذي ألقاه الرئيس السابق أمام منصة المحكمة، فبدلا من اللغة الاعتذارية التي تُقَدِم الندم على الأخطاء وطلب العفو من الضحايا والتماس تجاوز الشعب عن السنوات التي دفع ولا يزال فاتورتها شعب السودان، فقد أمعنت مرافعة البشير في الاحتفاء بالجرائم التي ارتكبت على مدى 30 سنة، وتغافلت عن الضحايا الذين ينتظرون الإنصاف وما بدلوا تبديلا.
صحيح أن الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الإنقاذ في 11 أبريل 2019 لم تحقق أياً من غاياتها، وصحيح أن الشعب السوداني بات يرى فيها تكراراً لتجربتي ثورة أكتوبر 1964 وأبريل 1985 اللتين أفرغتا محتوى التغيير الذي كان يطمح إليه الشعب السوداني ليبدل حاله ويضعه في الطريق الآمن نحو الاستقرار السياسي والنماء الاقتصادي، لكن ذلك لا يعني أن الحيثيات التي بسببها خرج الشعب السوداني ثائرا ليحمل رأس النظام من عرينه المكين إلى حضن سجن كوبر انتفت أو اتضح أنها محض غضبة هوجاء فاقدة عقل ودِين.
حرب دارفور مثال واحد لجرائم ماحقة في عهد الإنقاذ لم تجد حتى اليوم الشجاعة للإقرار بها وطلب الصفح من الضحايا، هذا الحريق الهائل الذي تمدد من بدايات الألفية إلى اليوم، أودى بحياة مئات الآلاف من المواطنين السودانيين الأبرياء، وأزيلت بالآلة العسكرية قرى كاملة من الوجود، وسحقت الأرواح البريئة من الأطفال والنساء والشيوخ والضعفاء، وكثير منهم أحرقوا في بيوتهم احياء.
بعد هذه المحرقة التي هزت العالم كله وأجبرت مجلس الأمن الدولي على إصدار أكثر من 30 قرارا ضد السودان وإحالة 5 شخصيات سودانية إلى المحكمة الجنائية الدولية، بينهم رأس الدولة وهو على المنصب قبل الإطاحة به، ينتظر مئات الآلاف من الضحايا رؤية الإنصاف والعدالة، بعد أن تحول الرئيس السابق إلى مجرد حبيس في زنزانة صغيرة بسجن كوبر.
القاعدة القانونية الذهبية تنص على أن “العدالة لا تتحقق، حتى تُرى وهي تتحقق”، أي أن العدالة وإنصاف المظلوم لا يتحققان مطلقا دون أن يرى المظلوم هذه العدالة بأمّ عينيه، فوجود شخص في السجن مهما طال مكوثه لا يعني للمظلوم شيئاً، إن لم يرَ العدالة تقام جهاراً نهاراً وفق مقتضيات القانون.
“أدب الهَمّبَاتة” لا يصلح أن يكون “خط دفاع” في محاكمة نظام خرج ضده الشعب السوداني كله، وأطاح به في أعظم ثورة شعبية أشاد بها العالم.