) ضاق صدر الثورة المضادة بالمساعي الدولية والقارية والإقليمية التي تتكاثف لعون بلدنا شق طريقه للانتقال الديمقراطي. وعرضت في وجهها بوطنية شعواء ما عُرفت عنها. فالوطن عندها كان وما يزال نسياً منسياً: فأر تجارب لمشروعهم الإسلامي الحضاري ومغارة لصوص. ولم تأتنا هذه المساعي للانتقال الديمقراطي فرضاً. لقد استدعاها طلبنا الحثيث للديمقراطية والتغيير كشرت هذه الثورة المضادة نفسها حياله منذ الاستقلال. واستدعينا بعضها بأنفسنا تنجدنا من براثن نفس وطنيي الساعة الخامسة والعشرين.
إن الوطنية ليست واقعة وطنية مية مية. لو كانت لما احتجنا لإزاحة من بني الوطن فسقة فسدة توالوا على حكم البلد. فالوطنية هي واقعة عالمية أيضاً. فلم تكن دولة الإنقاذ واقعة وطنية “من واقعنا ما من أكتر” وحسب. لقد كانت هي العالم الذي قعد لها كل مقعد واسلمت له قيادها من فرط الإرهاق.
استنكار أن يكون العالم طرفاً في وطنيتنا كما يفعل الفلول هو لضرب العزلة على اتحاد أشواقنا لوطن حر مع من يسعف من العالم. والذكاء في هذا الاشتباك مع العالم في إدارته لا في الاشمئزاز منه والترفع المغرض عليه.
وهذه كلمة عن الوطنية والعالم نرى منها كيف أن استقلالنا في 1956، عقدة الوطنية، مما أعاننا العالم فيه. وأعاننا من العالم فيه أمريكا من دون الآخرين في شرط زمان ومكان مخصوصين. الوطنية ليست من “واقعنا ما من أكتر”. الوطنية هذه وأكثر.
بدأت المفاوضات للحكم الذاتي للسودان في 20 نوفمبر 1952 بين جهات ثلاث هي الحكومة البريطانية والحكومة المصرية وحكومة إدارة السودان الإنجليزية. وكان موقف الإدارة الأخيرة في التفاوض هو الأضعف. فلم تحصل مصر على دعم الأحزاب السودانية لها بعد أن تنازلت عن حقها المشروع في السودان والرضا باستقلاله إذا شاء فحسب، بل تعزز موقفها لأن أمريكا قامت أيضاً بضغوط استثنائية لدرجة الوقاحة لجر الحكومة البريطانية نفسها لتقبل بأشراط مصر.
اختلفت مصر وبريطانيا حول مسائل أهمها سلطات حاكم عام السودان خلال الفترة الانتقالية وإحلال السودانيين في وظائف الإنجليز المعروف ب”السودنة”. وإجمالاً سادت وجهة نظر مصر كما هي، أو بتعديلات مقبولة لها. فكان من رأي بريطانيا منح الحاكم العام سلطات مطلقة في جنوب السودان لحماية أهله من أن يكون ضحية للشمال. وكان رأي مصر أن السودان دولة واحدة فلا مبرر لوصاية على جزء منه دون أجزاء أخرى. وانتهى الأمر إلى تخويل البرلمان السوداني الإشراف على الجنوب بترتيب مع دولتي الحكم الثنائي. وكان رأي جيفرسون كافري، سفير أمريكا في مصر ودينمو المفاوضات كما سنرى، أنه حرام ترك مصير مصر والشرق الأوسط معلقاً بكلمة واحدة اسمها الجنوب.
وكانت بريطانيا تريد للجنة الحاكم العام المقترحة بتكوين سوداني وبريطاني ومصر وأجنبي أن تكون استشارية، وأن تقوم بعد الانتخابات التي انعقدت في نوفمبر 1953. وأرادتها مصر غير استشارية تقوم قبل الانتخابات لتحد من نفوذه وتأثيره على الانتخابات نفسها.
وفي جهة السودنة كانت مصر تريد لها أن تكتمل خلال سنوات الفترة الانتقالية الثلاث لجلاء بريطانيا عن السودان جملة واحدة قبل الاستفتاء على تقرير المصير. وكان من رأى بريطانيا أن يقرر السودانيون إن أرادوا الاحتفاظ بالموظفين الإنجليز الذين لم يملأوا خاناتهم أو تسريحهم.
كانت أمريكا في ضغطها على الحكومة البريطانية في عجلة من أمرها تريد أن تفرغ من مسألة السودان بنجاح لبحث مسألة جلاء القوات البريطانية عن مصر وترتيبات الغرب للدفاع عن الشرق الأوسط تحسباً لملء الفراغ الذي سينشأ بانسحاب القوات الإنجليزية عن مصر ومنع النفوذ السوفيتي من التمدد لمصر.
ولعب جيفرسون كافري (1886-1974)، السفير الأمريكي لأمريكا في مصر، دوراً في دفع المفاوضات حتى غايتها بقوة وصلف أزعج المفاوضين البريطانيين كما سنرى في حين حظي بإعجاب الحكومة المصرية. كان لا يشقق العبارة. قال في رسالة له لوزارة الخارجية إن بريطانيا غافلة عن “البغضاء المرضية” التي يحس بها المصريون تجاههم. وطلب في مرة أن تلقى أمريكا سياسة بريطانية ما بالرفض الصارم وإلا لم تكن لها سياسة. ويبدو أن كافري الذي لا يرحم هو من عناه جمال الشريف في كتابه عن تلك الفترة بقوله إنه من قاد بريطانيا من أذنها إلى تلك المفاوضات.
وكان الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية غير رحيم تخلله تهديد واستفزاز. ففي طور من المفاوضات أبلغت أمريكا بريطانيا عن طريق سفيرها أنها تريد حلاً سريعاً لمسألة السودان تفادياً لاضطرابات منذرة في مصر والسودان. وقالت في مرة أخرى إنه إذا فشلت المفاوضات، أو تأخرت، ستحتفظ لنفسها بحرية الحركة بشأن مصر. وشكا السفير البريطاني مرة من استفزاز كافري له خلال المفاوضات. فقال إنه أثار أعصابه بفخره أن محمد نجيب، رئيس جمهورية مصر وممثلها في المفاوضات، قَبِل أكثر ما قبل من بريطانيا إرضاء لخاطره هو.
وكانت حكومة السودان هي الخاسر الأكبر في المفاوضات. فعادت من الغنيمة بالإياب وجهها يلعن قفاها. فلم تلقها حتى من حكومتها ناهيك من السودانيين الذين اعتقد إنجليز السودان أنهم صنع يديهم. وقال قوين بل، مساعد السكرتير الإداري للحاكم العام، إن الاتفاقية مخيبة لأمل الإنجليز في السودان وصدمة لأمانيهم حول مستقبل السودان ورفاهيته. في حين ألقى جيمس روبرتسون، حاكم السودان العام باللوم على كافري قائلاً “إني اشعر أني هُزمت وهَزمت السودانيين . . . لقد هزمتنا مصر، وهزمتنا وزارة خارجيتنا وسفارتنا. وهزمتنا أمريكا التي انتفعت من حماقة وقصر نظر القادة السودانيين”.
إذا استنتج أحد من هذا التاريخ منذ ثلثي قرن أنه ما تغير شيء لم يصب تماماً. فالبادي بالفعل أنه ما تغير شيء إذا ما استبدلت السفير كافري بفولكر بيرتس، الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان، الذي يشرف على عملية الانتقال الديمقراطي في السودان في يومنا هذا. وبدا لي أن الحكمة من الخبر أن نحسن الاشتباك مع العالم طالما أنه لن يتركنا كما نشتهي أن نكون بدونه بالكلية. فتطفل العالم علينا لم ينقطع. وكانت دولة الإنقاذ مسرحه المفتوح. وربما أن الذي ينقصنا هو إدارة هذا التطفل.
IbrahimA@missouri.edu