هناك نوعان من الكوارث ذات الصبغة السياسية التي يمكن أن تصيب الأوطان ، الأولى يمكن نعتها بالكوارث المُنَّظمة أو المُخطَّطة ومن أمثلتها كارثة إنقلاب الإنقاذ البغيض في العام 89 ، تلك الكارثة التي قضت على الأخضر واليابس في بلادنا ، ولكن بعد ثلاثين عاماً تمت إدارتها بواسطة فلول الحركة الإسلامية (للأمانة) بإقتدار وحنكة وجدارة إستطاعوا بها في نهاية الأمر أن يحقَّقوا لأنفسهم وتنظيمهم السياسي ما لم ترتقي مستويات أحلامهم لتحقيقه ، وفي مقابل ذلك (قُبرت) المصلحة الوطنية العامة ، وتم إلغائها من قاموس إهتماماتهم حتى إستولت دولة الحزب والتنظيم السياسي على كل مفاصل الدولة القومية أو دولة المؤسسات المستقلة ، مما أدى في نهاية الأمر إلى تنافس فصائل الحركة الإسلامية ذاتها على مشاريع نهب الموارد ومراكز النفوذ والسُلطة حتى ضعُفت بنيتها الأمنية أو على الأقل أصبحت قابلة للإختراق وقادرة على ذلك التواطؤ الذي (ساند) و(دعم) مسارات إنتصار ثورة ديسمبر المجيدة وتمكُّنها من إسقاط نظام المؤتمر الوطني على مستوى (قياداته) و(رموزه) ، مع التسليم بأن النظام الإنقاذي داخل مؤسسات الدولة ومفاصلها وهيئاتها ما زال موجوداً وقائماً و(نافذاً) ، بل ما زال يحمل بين جواحه وآماله المستقبلية مشاريع للعودة يتم دعم مُخطَّطاتها عبر العديد من الأساليب التي طالما تضرَّر منها مشروع الإنتقال الديموقراطي ، وتحت طائلة الإشارات المُتتالية لقوى الثورة على مسمياتها وإتجاهاتها المختلفة إلى ما أسمتهُ (مقاومات) و(عراقيل) الدولة العميقة.
أما النوع الثاني من الكوارث ذات الصبغة السياسية فيمكن وصفها بـ (الكوارث العشوائية) وغير المُنظَّمة ، ومن أمثلتها إنقلاب 25 أكتوبر ، فقد إفتقد إنقلاب البرهان ورفاقه إلى الكثير من الإشتراطات والمعايير البديهية التي يفترض أن (يتكيء) عليها أيي إنقلاب عسكري ، وفي مقدمتها (الرؤية السياسة) لما بعد الإنقلاب وإستتباب أمر التمكُّن من الإستحواذ والإنفراد بالحكم ، ويدخل في إطار الرؤية تأكيد وجود وجاهزية حاضنة سياسية تستطيع أن تقاوِّم ما هو متوقَّع من مقاومة شارعية للإنقلاب ، أو على الأقل مُجرَّد التشويش على ما يمكن أن يحدث من تداعيات ستعمل على إزكائها كل الأطراف المعارضة لإجهاض العملية الإنتقالية ، لكن ذلك لم يحدث وظل الإنقلاب يتخبَّط تارةً مغازلاً الحركات المسلحة وبعض الكيانات السياسية الهزيلة وتارةً أخرى (مُستنجداً) بفلول النظام البائد ، كما أن من أهم الإشارات التي تفيد (عشوائية) إنقلاب 25 أكتوبر وإفتقاده إلى رؤية واضحة لمشروعه الخاص بحكم البلاد أو طرحه لما حدث كبديل للتحوُّل الديموقراطي ، عدم قدرته على الوفاء بما جاء من وعود وبرامج وخطوات تم إعلانها في البيان الأول للإنقلاب ومن أهمها تكوين حكومة تسيير أعمال ورفدها بتوافق وطني سياسي جامع يُقنع الشارع الثوري بدعمه وفي ذات الوقت الوقوف في مواجهة قوى الحرية والتغيير والإقرار بكل الإتهامات التي وجَّهها نحوها البيان الأوَّل للإنقلاب ، ولكن ونتيجة لذات (الفلسفة العشوائية) والرؤية القاصرة والمعدومة لم يستطع قوُّاد الإنقلاب تكوين حكومة ولا القضاء على حركة الشارع الثوري ولا حتى دفع الرأي العام الداخلي والدولي إلى إقرار ما أتهموا به قوى الحرية والتغيير من إتهامات ، فجميع قياداتها الآن حُرة وطليقة ولو إستطاع الإنقلابيون ومعهم فلول الإنقاذ أن يجدوا عليهم أدلة لما توانوا لحظة عن ملاحقتهم فرداً فردا ، الجدير بالذكر أن كوارث الإنقلابات العشوائية من أسوأ تداعياتها ، فتح باب المنابر وأحياناً مراكز السُلطة والنفوذ لأنصاف المواهب ومتواضعي القُدرات والخبرات ليتسيَّدوا مراكز التأثير في الشأن العام ، فأغلب الذين ما زالوا يوالون الإنقلاب حتى يومنا هذا ويتفانون في عرض خدماتهم البغيضة لإنتشاله من مُستنقعه الآسن ، هم ثلةٌ يجمعهم في هذا المسير الجهل ، وضعف القدرات ، وإنعدام الكفاءة ، والأنانية المُفرطة التي لا تسمح لهم بأن يروا شيئاً في العمل العام غير الحصول على المصالح والمكاسب الشخصية.