في التأريخِ لمسيرة الخدمات الطبية والصحية في السّودان، نجد أقلاماً رصينة وإصدارات من مؤلفات ومن ترجمات ، رمّمتْ فجوات في التاريخ العام للبلاد ، ولم يكتبها أكاديميون متخصّصون في علم التاريخ، بل بادر بكتابتها أكاديميون متخصّصون في العلوم الطبية . من بينَ أبرز من تناولوا رصد وتوثيق مسيرة الطب والصّحة في السودان، أطباء كبار من الروّاد أحمد بيومي ، وأحمد الصافي. رصدنا مؤخراً ما ترجم بدرالدين حامد الهاشمي، وما كتب وألف ونشر، كلٌّ من أحمد عوض عديل وطارق عبدالكريم الهَـد وسواهم وجميعهم علماء في مختلف مجالات العلوم الطبية، حملت كتاباتهم رصانة العلم وصدقية التجريب، وفوق ذلك متانة التعبير باللغتين العربية والأجنبية.
بروفسور طارق الهَـد هو الذي نقـدم لسادس إصدارته، وهي ترجمته لسـيرة الطبيب العالم البريطاني “جون بريان كريستوفرسن”، بعنوان: ” سُـم في جرعة صغيرة: لعلاج البلهارسيا”. يضاف الكتاب لسلسلة إصداراته عن تاريخ الخدمات الطبية والصحية في السّودان، وهو ترجمة إلى العربية للسيرة الغيرية لذلك لطبيب البريطاني العالم مكتشف علاج البلهارسيا. والكتاب الذي صدر بالإنجليزية هو من تأليف حفـيـدته الباحثـة الرّاحـــلة “آن كرايتون-هاريس”، التي جعلتْ من توثيق تجربة جدّها في السّودان، مدخلا للتأريخ لجوانب من بدايات الخدمات الطبية في السودان، فكان ذلك همّاً من همومها الكبيرة، إذ قضت السنوات الطوال لانجازكتابها الذي نحن بصدده . ومِن أسفِنا وأسف دكتور الهَـد، فـقـد رحلتْ المؤلفة عن عالمنا قبل أشهر قليلة، قبل إكمال ترجمة كتابها ولم تشهده يخرج للناس باللغة العربية .
إنّ علم التاريخ كما قـد نعلم، لا يقف عند أعتاب الوقائع السياسية، وإن أسهب كاتبوه التقليديون في سرد قصص الحكّام والقوّاد الكبار، عن أيّام سلمهم وأيّام حروباتهم، لكن صار للأكاديميين في علم التاريخ نظرٌ إلى حراك الشعوب وجماع نشـاطاتهم وتفاعلاتهم في مختلف مجالات ما بات يُعرف بالمجتمع المدني، باللغة الآنية. والمجتمع المدني هو ذلك النشاط الذي يتصل بحراك ذلك الشـق المجتمعي البعيد عن الحكومات والرسميات. أضرب لك مثلاً لتبيان توسّع المؤرّخين فيما أسـموه بالتاريخ الإجتماعي، أفصّله هنا عن التاريخ الفرعوني. أقول لك إنه لم يعد كافياً أن نسمع بقصّة الفرعون الذي بنى الأهرام، بل الاتجاه الآن أن نستقصي إلى أبعد من ذلك، حتى تكتمل الصورة التاريخية بجماع مكوّناتها وتفاصيلها. ذلك يتأتّى بالنظر إلى ما قبل وما بعد، ومن وراء ذلك الفرعون. ينظر المؤرّخ الأوسع نظراً إلى من صمّموا ومن هندسوا ومن نفذوا هذا البناء الأعجوبة، وفيهم من العمال المهرة أو غير المهرة، وكيف انتظموا في تقسيم العمل ، أو كيف اقتطعوا الحجارة لبناء ذلك الهرم.
هكذا لم يَعُـد اهتمام التاريخ قاصراً على النظر في وقائع المستوى الأعلى وفيه القيادات والحكّام والتراتبات الرّسمية، بل تجاوزه ليهـتـم بالذي يجرى في المستويات الأدنى المعنيّة بالوقائع الاجتماعية، من خدمات وأنشطة تعليمية وثقافية وطبية وصحية وتجارية ومعمارية وإنشائية وسواها . وتجد للمؤرّخ نظراً ثاقباً يسـبر تفاعل أهل البلاد مع مثل هذه الأنشطة، وما يتوقّع من تداعيات وآثار. ولطالما ظلّ المؤرّخون التقليديون منشغلين بالوقائع السياسية والاقتصادية ، اتفاقاتها واختلافاتها ، استقرار الأحوال واضطرابها ، حروباتها وأمنها وهـدوءها، ثم جاء اهتمام المؤرّخين المعاصرين بأكثر من ذلك، فاتصلوا برصد المستويات والمجالات الحيـوية الأخرى ، كالإهتمام بتطوّر أحوال الخدمات التعليمية والثقافية، ونظم التطبيب والصّحة، وتحوّلات نظم التجارة والاقتصاد، وبقية العلاقات والوقائع، ممّا لم يكن يلتفت إليه قدامى المؤرّخين التقليديين .
نظرة في الحقبة الاستعمارية الكولونيالية في السودان:
وحتى أكون أكثر وضوحاً، فإنّي أحـدّث هنا عن حقبةِ الحكم الإستعماري الكولونيالي في السّـودان، بعد غزوه بجيوش كُـلّـف بقيادتها اللورد “كيتشـنر”، والذي قضى على دولة المهدية وفرض سيطرته واستيلائه على البلاد، بعد تفويضٍ وتكليفٍ من قبل مصر وبريطانيا.
وهكذا أُعلنَ حُكم “السودان الإنجليزي- المصري” بموجب اتفاقية الحكم الثنائي منذ عام 1899م. جرتْ تحت جسور البلاد، مياه خالطت أحداثاَ جارفة وأخرى راكدة، حتى استقوتْ الحركة الوطنية، وفي أتون تحوّلات وتطوّرات بعد الحرب العالمية الثانية، واستشرفت البشرية منتصف القرن العشرين الميلادي، حقبة ما عرف بالمجتمع الدولي بمفاهيمه التي رسّـختْ حقوق الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، لنيل حريتها وإدارة أحوالها بحرية واستقلال كاملين.
لا نحتاج هنا لتفصيل ما كتبه المؤرّخون عن تلك الحقبة في السودان، وجلّها وقائع سياسية تتصل بإدارة البلاد وحكمها من جانب طرفي اتفاقية الحكم الثنائي، ثم نشوء الحركة الوطنية وتطور مسيرتها التي أفضت بتطور الأحوال إلى نيل السودان استقلاله في يناير عام 1956م.
حكمتْ البلاد في مستواها السياسي، إدارة عليا ممثلة بالحاكم العام ومساعديه . أما في إدارة البلاد على المستوى الأدنى ، سنجد القيادة الكولونيالية وقد أُعدّتْ الخطط ونظم الحكم وفق أجندات تخصّ تلك القيادة بالدرجة الأولى ، ثم رتبتْ من بعد ما قد يتصل بالشعوب المستعمرة بالدرجة الأدنى. بهذا الفهم جري إدخال وتطوير مجمل الخدمات في البلدان التي تسكنها في نظرهم شعوبٌ “متخلفة”. ولتنفيذ خطط بريطانيا الاستعمارية الكولونيالية لحكم السودان، فقـد تم استقدام إداريين شـبّان كانوا في الأغلب من خريجي جامعات بريطانيا ، إلى جانب إداريين وأطباء عسكريين ومهندسين ومعلمين كبار، وفي درجات وسيطة . ولأن هيكل الحكم قام على ثنائية غير عادلة بين مصر وبريطانيا، فنجد أكثر المستقدمين هم من بريطانيا وقليل منهم من مصر. الإدارة البريطانية للسودان لم تبتعد عن عقيدة الاستعمار الكولونيالي الموصوفة بـتعبير الشاعر البريطاني “كيبلينج”: “عـبء الرّجل الأبيض” ، والتي عكستْ ضمناً إعلاء وهْـم مركزية تفوّق الحضارة الغربية، بما يوفر ذلك المبررّ الأخلاقي لاسأتدامة ظاهرة الإستعمار والكولونيالية. على تلك الخلفية، ينبغي أن نمعن النظر في منجزات الإدارة الإستعمارية الكولونيالية ، خاصّة في مجال الخدمات الطبية والصحية والتعليمية.
“آن كرايتون- هاريس” وسـيرة مكتشف علاج البلهارسيا:
للطبيب الحاذق البروفسور طارق الهَـد ولعٌ جاد واهتمام أصيل بالتوثيق لبدايات تأسيس الخدمات الطبـية والصّحـيـة، ومسيرة تطوراتها في حقبة الحكم الثنائي في السودان. يطرح بروف.طارق عبدالكريم الهَـد إسـهاماته التوثيقـية والفكرية، تحـت عنوان “سلسلة الطبِّ والصّحّة في السّـودان”، فألّـف وترجــم وأصدر عدداً من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية، وتجـد كلّ ما أنتج مُثـبـتـاً في الغـلاف الخلفي لكتابه هـذا الذي بين يديك. يدهشـك طارق الهَــد بامتلاكه ناصيتي تلكما اللغتيـن. لستُ مُغالياً إنْ رأيتَ في كتاباته وترجماته نصاعة بـزّ بهـا الأدبـاء الكاتبيـن باللغة العربية أو الإنجليزية معـا، وهو الطبيب الإستشاري، لا الأديب المُتخصّص في الأدب أو في الترجمة. لا يتوقّع صديقنا الهَـد إطراءاً، وبيننا بالمناسبة آصرة ولُحمة، ولكن لا جرح في شهادتي إذ أقول له غير مُصـانعٍ بَخٍ بَخٍ فقـد أجـدتَّ بتحقيقـك ما استهدفتَ، وأنّها لمبخَخَـة مُسـتحقة.
ما يُعجـب وما يُغضِـب في التجـربـةِ الكولونيـالـية. . ؟
سـامِح قلمي أن يخاطبك أخي طارق، وأنا أكتب سطوراً في تقديمي لترجمتك هذا الكتاب الهـام عن مُكتشـف عقار البلهارسـيا، العالم البريطاني “جون بريان كريستوفرسن”. بعد الذي جاء من قلـمي عن خلفـية موضوع كتاب البحّـاثة الرّاحلة “آن كرايتون- هاريس” عن قصّة جدّها المكتشف (وهو خال والدها )، وبعد أن تخفّـف الصّدرُ من امتـداح مُسـتحقٍ وخليقٍ بمسـاعـيـكم، دعني أحدّث عمّا استوقـفـني في جهـدك الأكبر هذا. لعلّ أكثر ما شـغلني فـيه، هو أنْ أفتح عـينيَّ فلا أشـيحهما عن التموضع في محلٍّ لا أجزع فـيه ولا أتزعزع. نحـن نراك – وأنت الطبيب الباحث – تـقـف عند مسيرة تأسيس الخدمات الطبيّة في السّـودان فنعجـب معـك، ونُعلِي من شـأن أطبـاءٍ وعلمـاءٍ، جاءوا من وراء البحار وقدمّوا البذل المحمود المقدّر. لكنّا نـقـفُ معك على مسافةٍ من النظام الاستعماري الكولونيالي، ذلك الذي اسـتقدم تلك الخدمات إلينا ، فيكاد بعضٌ منّـا أنْ يغضب . أوليـسَ في الاستعمار والكولونيالية من علامات الاستبداد والغطرسة مـا تُغضـب ؟
لعلّ السّـؤال المُمضّ – إذا أردتني أن أقترب من ترجمتـك لكتاب “آن كرايتون-هاريس” الذي قرأته معك، هو كيـف نمضي لنُزجي الامتداح لتلـك السيدة النبيلة لجهـد التوثيق، ولخال والدها الطبيب العالم النبيل لجهـد اكتشاف علاج البلهارسيا؟ أما أســديا إلينا- بل وإلى البشرية جمـعـاء- بذلاً في مجال التطبيب والخدمة الصحية التي قـدّماها لبلادنا بما يستحق المدح والتقريظ. . ؟ هل ترانا نملك أن نرتـدّ على أعقـابنا فنقول عنهما استعماريين جـاء بهما نظام إستعماري كولونيالي باطـش، لا يحمـد أفـعـاله عاقـل؟ حملت ذات السؤال إلينا في خواتيم كتابها البحاثة الراحلة ” آن كرايتون-هاريس، ولي هنا أن أقتحم ما عسى أن أجد من إجابة ، وسيراها كثيرون تفترع أسئلة أخرى . ليكن بدء الكلام عن “الكولونيالية” . .
لعـلّي أحتاج لتبيان بعض تفاصيل، أراها لازمة حول تجلـيّـات مفهوم ظاهرة الاستعمار الكولونيالي، آمل أن لا يبعدني إيرادها بإسهابٍ لا مندوحة عنه ، عن هدفي في تقـديم هذا العمل المُميّـز الذي أنجزه صديقي البروفسور طـارق عبدالكريم الهَــد.
عن بعض تجليّات الاستعمار الكولونيالي:
حين يتمعّـن المرؤ في الآية الكريمة:
(يا أيُّهَا النّاسُ إنّا خلقناكُم مِن ذَكَـرٍ وَأنْـثَـى وَجَعَـلـناكُم شـعـوْباً وقبائلَ لِتعَارفوا إنَّ أكرمكُم عِندَ الله أتقاكُم إنَّ الله عليمٌ خبيْر)، سيجد إنّ الطبيعة البشرية، في تجلياتها عند الطوائف والقبائلَ والملل، هي بمثل ما فطرها الله، تنحو إلى التعارف ، والتعارف في المعنى الأوسـع هو التعاون ، وأمضي إلى المعنى الأبعد من كلّ ذلك ، فأقول هو المفهوم العصري لتبادل المنافع بيـن شعوب العالم، وبما يُسمّى بلغة اليوم “التعاون الدولي”. وللتعاون الدولي وجوهٌ وتفاعلات تتأرجح بين ما هو إيجابي وما هو سـلبي. تقوم تحالفات وصداقات بين الشعوب، فيتمّ تبادل المنافع بسلام فـيـما بيـنـها ، بمثلما قد يقع بينها من اختلافات وصراعات، محاورها لا تبتعـد عن تناقص الثروات أو نضوب موارد الطبيعة، فتزداد نوازع الطمع والآثرة. يؤكّد ذلك تاريخ البشرية المليء بالحروبات والاقتتال، وتبين أقصى حالات التطرّف في ظاهرة الإبادة الجماعية، تلك التي يستهجنها التاريخ البشري، ولا تتسامح فيها أنظمة المجتمع الدولي القانونية.
من تجليّات التعارف السّـالب ، ظاهرة سَـعي الأقوى لاستضعاف غيره، لأسباب تتصل برغبات المعتدِي الجامحة للحصول على ما عند الآخر المُعتدَى عليه(بفتح الدال)، ممّا لا يملكه المُعتدِي (بكسر الدال). بلغة أوضح، أفضتْ مثل تلك السلوكيات، إلى ظاهرة الاسـتعمار “الكولونيالي” السلبية ، فلا يلتبس عليك المصطلح القـرآني في الآية الكريمة من
سورة هود: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (61) ؛ أَي أَذِن لكم في عِمارتها وجعَلَكم عُمَّارَها .وجاء في تفسير الطبري : مفهوم استعمركم فيها كما ورد ذكره سابقاً، أي أسكنكم فيها أيام حياتكم، وجعلكم عُمّاراً فيها.
وتلك إذاًمدلولات إيجابية تحضّ على إعمـار الأرض وإثرائها. لذا تجدني، ومنذ السطور الأولى لمقدمتي لهذا الكتاب الذي شرفنا البروف طارق عبدالكريم الهَـد بالتقديم لترجمته، أميل إلى إضافة الوصف اللاتيني : “كولونيالي” إلى كلمة “إسـتعمار” التي شاعتْ عند المؤرّخين وعلماء السياسة وأهل الإعلام، بما يصعب تجاهـلها ، و”الكولونيالي” في مدلوله اللاتيني، هو تحديداً من يستولي ويسيطر على الأرض ومن يسكنها احتلالاً واستغلالا وإعماراً. ولعلّ القاريء السّـويّ بوافـقـني أنّ السّـلبي في مصطلح “الكولونيالية”، أشـدّ وضـوحاً ممّا في مدلولات مصطلح “الإستعمار” الشائع.
في دراسته عن الاستشراق ، وفيما هو يفسِّـر نظرة طرفٍ واحد لطرفٍ آخر مختلف،يمعن المفكر الفلسطيني الرّاحل “إدوارد سـعـيد” في تبيان ريبة نظـر المستشرقين للمشرق وما قد يبدو من براءة في ظاهرها، لكنها تضمر نظراً من طرف يعطي نفـسه ملكية التفوّق ومركزيته لديه ، فينظر للمختلف عنه على أنّهُ الأدنى مرتبة ، بل هو المتخلّف، إن لم يكن هو فعلاً، كما شاع في حقبٍ قديمة. ذلك كله ما يفسّر لك ظاهرة الاسترقاق، منذ قرون البشرية الأولى . تصاعدتْ خلال القرنين التاسـع عشر والقرن العشرين، ثم كبرتْ جُرماً مستهجناً ، إلى أنْ سـنّت لاحقـاً القوانين والمواثيق الدولية التي حرَّمتْ تجارة الرقيق، ضربة لازب، وبدأ بعدها التراجع الاعتذاري عن سياسة الاسترقاق وما اشتق منها من سلوكيات عنصرية .
أمّا بعد الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م)، فقد بدأت رسمياً حقبة ما بعد الاستعمار الكولونيالي “الغـربي”، بتواتر نيل الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار الكولونيالي في أنحاء القارات، خاصة في أفريقيا وآسيا والأوقيانوس، حقها في الاسـتقلال والتحرّر وامتلاك القرار. في سـنوات ما بعد حقبة الحرب العالمية الثانية، صار العالم الذي كان “الغـرب” – مُدَّعِي مركزية التفوّق- يصفه بالتخلّف والوحشية ثمّ يحتل أراضيه، وآخر أمره يعتمد وصفاً أقلّ تطرّفاً وأكثر موضوعية، حسـب نظر من يصيغ المصطلحات السياسية عندهم ، فسمّوه “العالم الثالث”. ذلك مصطلح يمكن التصالح حوله، وإنْ عكـس تراتبية لا تُخفي نوازع التفوّق عند من تبوأوا مقاعدهم ضمن “العالم الأول” .
شملتْ تلكم التراجعات فيما شملتْ، توجّهات ومصطلحات فـقـدتْ مدلولاتها، مثل تعبير The White Man’s Burden ، ما يسمونه “عبء الرجل الأبيض” والمشتق من قصيدة شاعر بريطانيا “روديارد كيبلينج”، وثمّة إشارة له في كتاب المؤلفة “آن كرايتون-هاريس” الذي نقدم له هنا، فهو من مادحي الكولونيالية التي نحدّث عنها هنا . وذات العبارة عبر عنها الفرنسيون بلغتهم :”مهمة إدخال المدنية” La Mission Civilisatrice.
تلك مفاهيم سادت مع “الكولونيالية” وبادت بزوالها. لقد صارت لغة التعاون الدّولي المعاصرة، تعتمد تعابير مبتكرة عن التنمية والتنمية المستدامة، بل وأسدلتْ حُجُـباً كثيفة على تعبير “العالم الثالث”، لما يحمل من مدلولات التـفـوّق عند جهة مركزية تطلق مصطلحات شـبيهة، تنطوي على تراتبية حان وقـتُ تجاوزها تماما.
كتب المفكّرالرّاحل إدوارد سعـيد في كتابه “الإستشراق ” فقرة لها دلالات قوية، أجتزؤها من صفحة 42 :
(إنني لأشـكّ في أنْ يكون ثمّة ما يُثير الجدالَ في القول مثلاً، بأنّ الإنسان الإنكليزي في الهند أو في مصر، يدرك في أواخر القرن التاسع عشر، أنّ إيلائه هذين البلدين اهتماماً، لم يكن في أيّ لحظة منفصلاً عن مكانتهما في ذهنه كمستعمرتين بريطانيتين..). ولإن كان المفكّر إدوارد سعيد معنياً بتحليل نظرة الغرب للمشرق بما أضمرتْ من استعلاء، فإنّ المقاربة تكاد تطابق نظرة الغرب للقارة الأفريقية. إلى ذلك تقودنا مثل تلك النظرة المجحفة للتساؤل عن المدى الذي يتماهى فيه الإداري الإستعماري الكولونيالي، وهو في المستوى السياسي الذي يقـف فيه بعنجهية، مع ذلك المستوى المدني الأدنى الآخـر. .؟
يقع الالتباس بين مفهوم السيطرة السياسية في مستواها الأعلى التي تمثلها القيادة الإدارية الكولونيالية، ويرفض المحكومون بالفطرة السوية سلبياتها ، لكنهم في الوقت نفسه يرون أمامهم نماذج مقبولة لخدمات إيجابية من زراعة وتعليم وتطبيب وصحّة، يشرف على تقديمها لهم في المستويات الأدنى، ذلك الكولونيالي، إداريا كان أو طبيباً أو مهندساً أو معلماً. هذا تمييز يعيننا على استيعاب وفهم ذلك الالتباس المتصل بظاهرة الاستعمار الكولونيالي. هنا نتذكر بإيجابية “جون برايان كريستوفرسن”، وهو منخرط في طبّه، فتتصادم اجتهاداته العلمية بطريق غير مباشر، مع الحاكم العام ريجنالد ونجــت.
يقترب ذلك التميـيـز من طرح المفكر الايطالي “أنطونيو جرامشي” (1891م-1988م)وتفريقه بين “المجتمع السياسي” والذي تجسّـده الدولة والحكومة والجيش وخلافه، مما يقع في المستوى الأعلى، و”المجتمع المدني” الآخر الذي يشمل النقابات ومؤسّسات التعليم والصحّة وسواها من خدمات، ممّا يقع في المستوى الأدنى، أو هي من صميم البنية التحتية. غير أن المستويين الأعلى والأدنى يتداخلان ويتفاعلان، تلازماً بما يشبه الانسجام أو التكامل.
لعلّي أورد مثلاً صارخاً، جاء من الأستاذ الرّاحل حسـن نجـيـلة، والذي أصفه لك مؤرِّخاً اجتماعياً في كتابه الأشهر “ذكرياتي في البـاديـة”، (بيروت، 1964م)، وقد كان مُدرّسـاً في بقاع الـبـدو بدارفور في أقصَى غرب السودان. حكى نجيلة عـمّـن وصفه في كتابه بـِ “طـاغـية كُـتُـم”، وكان يشير إلى إداري كولونيالي بريطاني وصفه بالمُسـتبد، والذي كان يشرف في ذات الوقت ، على كلّ الخدمات المجتمعية في مديـنـة “كُـتُـم” الصغيـرة في أقاصي غرب السودان. أجل هو طاغية، لكنه كان مشرفاً على توفير خدمات التعليم والصحّة لذلك المجتمع الصغير.
كيف ننظر لمساهمات الطبيب العالم “كريستوفرسن” ؟
إنّ ما أنجز الطبيب “جون برايان كريستوفرسن” لعلاج مرض البلهارسيا، هو فتح طبي لولا بعض مشاعر التنافس غير الشريف من بعض مجايليه من الأطباء، أو إن لم يكن الحسد الموغل في العداوة عند بعضهم، لاستحق الرجل أن يحتل مكانا سامياً في الكشوفات الطبية، بما يؤهله لنيل جائزة نوبل في المجال. ولربما طبيعة ذلك المرض وارتباطه بالمناطق الحارة ، لا الباردة ، لالتفـت أهل الحضارة الغربية في أراضيهم الباردة ، لأهمية جرعة السُّـم التي اكتشفها الرجل ، لانقاذها ألافا وربما ملايين من سكان المناطق الحارة من الذين تحاصرهم البلهارسيا في المياه الآسنة والراكدة.
إن “الآهــا” التي تماثل صيحة “يوريكا”: وجدتها ، وجدتها عند “أرخميدس” ، هي صرخة حلّ شفرة العلم والاكتشاف ، هي صيحة إنقاذ أرواحٍ في مناطقنا الحارة، كانت ستعصف بها البلهارسيا إلى موتٍ زؤام لولا جرعة السُّم الصغيرة تلك. . التهنئة لك بروفيسور طارق، فقد أنجزت ترجمة لكتاب يوثق لسيرة رجلٍ أسهم مساهمة حقـة لمحاصرة مرضٍ فتاك ، ونذكر بالإجلال تلك الباحثة الرصينة التي وثقت لجدّها “كريستوفرسن” ولمسيرته ، فأحسنت الفعل وأهدتنا طرفا من تاريخنا. الذي يُحزن أنها رحلتْ ولم ترَ ترجمة كتابها الرائع إلى العربية، واللغة العربية هي لغة من عاش “كريستوفرسن” بينهم واكتشف السّم الشافي ، فما أحقنا بالاحتفاء بالرجل وبمن وثق له ومن ترجم.
يبقى أن نلفت أنظار السودانيين ، عامتهم والمختصّين والأكاديميين، لهذا العمل التوثيقي الهام والذي يصبّ في مجمل ما يبذل في البلاد من تأصيل ضروري وتوثيق لازم ، إذ في كلّ ذلك تعزيز لمشاعر الإحساس بالانتماء لوطنٍ ، ليسَ منغلـقـاً على ذاته ، بل منفتحاً على الآخر المختلف، يأخذ منه مثلما يعطيه. في تفاعلات التعاون الدولي، وفي التقارب بين المجتمعات، فإنّ لكلِّ مجتمع إرادة أن يتخلّص في غمار ذلك، من السلبي ويلقيه جانباً دون ضغينة، وأن يحفظ الإيجابي ويُعلي من ثماره بأريحية وامتنان . تلـك من حسنات مسيرة البشرية في تأثيرها وتأثرها.
الخرطوم – 12 يناير 2023