يُلاحَظ أنّ
شلة الأنس التي كانت تنعش أوقاتنا، وترهف أرواحنا بالحوار والطرفة والحكاية والخبر، قد اختفت نهائيا. فالمسافات تباعدت، والطاقة انخفضت، وأصبحنا جبيسي بيوتنا. تشتهي أصدقاءك فتحسب العديد من الحسابات التي تحول دونك ولقائهم. تمددت المدن على حساب علاقاتنا الاجتماعية، وصعبت الحياة وتفاصيلها وصرعت فينا روح التلاقي رغم الأشواق. كنا نذرع المدينة طولا وعرضا، مشيا على الأقدام، وفوق ظهور المواصلات. كانت مواصلات العاصمة وأبورجيلة تحملنا أينما كان قصدنا. كنا ننطلق من البركس إلى دور السينما في كلوزيوم، وغرب، وحتى سينما جنوب، وربما اتجهنا إلى الخرطوم بحري. كنا نغشى المسرح القومي ونستمتع بالفرق الإفريقية والعربية والمسرحيات السودانية، وكل ذلك يمكن أن يحدث بمشوار ( كدّاري ).
يُلاحَظ أنّ
الانهيار أصاب كل شيء ، فالمسرح لم يعد يؤدي دورا في حياة الناس. ودور السينما تم إعدامها، والحفلات العامة ومهرجانات الفرح واحتفالات المناسبات كالأعياد والمواسم لم تعد كما ه . كثيرون لا يستطيعون الخروج إلى الحدائق العامة، ولا إلى الملاعب الرياضية. ولا يستطيع أحد أن يمشي مطمئناً أي مشوار يزيد على الكيلومتر الواحد.
يُلاحَظ أنّ
ليالي الخرطوم تعمها الكآبة والركود، ويمشي في مناكبها الظلام. فالأفراح كأنها معلّبة، والموسيقى معطوبة مزاميرها، وصراخٌ هنا وآخر هناك، ولا تستطيع أن تفرّق بين الحزن والفرح.
يُلاحَظ أنّ
الأطفال المشردين، وعارضي البضائع عند إشارات المرور، والمتسكعين أثناء اليوم الدراسي يزداد عددهم كل يوم. تسمع أنينهم من الجوع والعري ولسعات البرد وسحائي الصيف، وتئن المدينة وتشكو من كآبة منظرهم الذي هو تذكارٌ دائم لنا بتقصيرنا وضعف أدائنا.
يُلاحَظ أنّ
أعين المدينة بها رمدٌ، وآذانها بها صممٌ، وقلوبها غلفٌ، وتحتوي بين أزقتها وجنباتها مجموعات من البلهاء.
يلاحظ كثير مما يعكنن الحياة حتى يكاد يوقفها تماما، ويحرن حمار شيخها في العقبة، فهل نحن منتبهون؟ وهل نحن عن الفساد مبتعدون؟ وهل نحن عن التقصير تائبون؟