نبتدر اليوم سلسلة مقالات تناقش كيفية إصلاح سياسة السودان الخارجية ومؤسساتها، والنأي بها بعيدا عن المحاور والارتهانات الأجنبية، وذلك بعد أن طالها التخريب والتدمير الممنهج على أيدي نظام الإنقاذ المباد. وسياستنا الخارجية هي من المهام الرئيسية التي وضعتها ثورة السودان في قمة أولوياتها، بإعتبارها أحد المداخل الرئيسية للتنمية ولإصلاح مؤسسات الدولة الأخرى، وبإعتبار أننا اليوم نعيش في عالم لا يقبل العزلة والانعزال، وتحكمه قوانين العولمة التي لا فكاك منها، والتي بدورها توفر تربة خصبة لتجلي ظاهرة موضوعية وحتمية، تتمثل في ما نشهده من تفاعلات وتدخلات بين مكونات هذا العالم، تتمظهر في شكل تحالفات أو بؤر تناقضات وصراعات.
وفي ظل هذا الوضع الدولي الراهن، المتغير وغير الثابت، تتقاطع نقاط وخطوط تماس أزمة السودان المزمنة مع العديد من تلك البؤر، ومن بينها: الصراعات داخل بلدان القرن الأفريقي وما بينها، الأوضاع السياسية المضطربة في دول الجوار المباشر، الأمن وصراع الموانئ والممرات المائية الدولية في البحر الأحمر والخليج العربي، صراعات المطامع الدولية في منطقة البحيرات في أفريقيا، الصراع العربي الإسرائيلي، الصراع حول المعادن والمنابع الجديدة للطاقة، المواجهة بين الديمقراطية السياسية والأصولية الإسلامية في المنطقة، سعي الاحتكارات المتعددة الجنسيات على السيطرة على السوق العالمي وممرات التجارة الدولية، تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين كمهدد استراتيجي وسعيها لعرقلة المشروع الصيني الضخم، الحزام وطريق الحرير، وأثر ذلك على بلدنا، الديون الخارجية وتدويل رأس المال، نزوع العالم نحو التعددية وحكم حقوق الإنسان، الاتجاهات نحو التكامل الإقليمي، السعي لصياغة نظام عالمي جديد بعد انهيار أسس النظام القديم، وبعد أن تخطى تاريخ البشرية الكيانات ذات المحور أو القطب الواحد..الخ. كل هذه البؤر وغيرها تشكل تحديات جسام أمام سودان ما بعد الثورة، وأمام سياستنا الخارجية بإعتبارها المدخل المباشر للتصدي لهذه التحديات.
بالنسبة للبلدان مستوطن الأزمات والكوارث السياسية والإجتماعية، ومن ضمنها السودان، فإن ظاهرة التفاعلات والتدخلات المرتبطة بالعولمة، والمشار إليها أعلاه، دائما ما تأتي تحت عنوان وقف الحروب الأهلية وفض النزاعات، ومن أجل بسط السلام وتحقيق الاستقرار في هذه البلدان لضمان السلم والاستقرار في العالم.
وأعتقد لن يختلف إثنان في أن عاملين رئيسيين يتربعان على قمة العوامل الدافعة لتدخل المجتمع الدولي في المشهد السياسي في هذه البلدان، أولهما، عجز القوى السياسية الوطنية وفشلها في معالجة الأزمات التي تعصف بالوطن حد تفجر الحروب ونسف الاستقرار داخل الوطن وخارجه. وبالطبع، نحن نتفهم ذلك، ونقر ونعترف بأن المجتمع الدولي قدم خدمات جليلة لإطفاء نيران الحروب وإخماد بؤر التوتر في العديد من مناطق العالم، لصالح أمن وسلام وتقدم البشرية، دون أن نغفل الإشارة إلى أن خدماته ووصفاته العلاجية هذه، تظل دائما حلولا جزئية ومؤقتة وهشة، تخاطب الظاهر لا الجوهر، بحيث أن تشظيات الأزمة في هذه البلدان تظل كما هي، محدثة انفجارات داوية من حين لآخر، ولقد ناقشنا ذلك كثيرا في عدة مقالات سابقة. أما العامل الثاني فيتعلق بضمان وحماية مصالح العالم الأول، المحرك والقائد لتفاعلات المجتمع الدولي.
وبالطبع أيضا، نحن هنا لسنا بصدد اكتشاف مذهل إذا قلنا إن المجتمع الدولي يضع نصب عينيه أهدافه العامة ومصالحه الخاصة وهو يرعى التفاوض بين الأطراف المصطرعة، في السودان، أو في غيره من بلدان العالم. فهذا أمر طبيعي ومفهوم في سياق لعبة المصالح، وأن تلعب مكونات المجتمع الدولي لصالح مصالحها العليا أو الدنيا. أما من جانبنا، فأعتقد من الطبيعي أيضا أن نتفهم ونقبل ذلك، وأن نقول بكل وضوح: لا إعتراض لدينا على ذلك ما دامت هذه المصالح لا تتم على حساب مصالحنا الوطنية. لكن، مساءلة مصالحهم ومصالحنا هذه، ليست بالمعادلة البسيطة والسهلة. وإنما هي معادلة صعبة يحتاج التعامل معها إلى قيادات وطنية حصيفة تعرف كيف تضع حدا بين مصالحهم والتغول على مصالحنا، وكيف تتمترس في الدفاع عن مصالح الوطن، دون أي إنحناءة أمام هذه الهجمة أو تلك، والمدخل هنا أيضا هو سياستنا الخارجية، ورؤيتنا الاستراتيجية لإصلاح ما تم فيها من تخريب، بإعتبار أن الرؤية الاستراتيجية هي الأساس لرسم السياسة الخارجية للبلد والمتمثلة في مجموع نشاطات الدولة الناتجة عن اتصالاتها الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولي.
صحيح أن الرؤية الاستراتيجية لسياستنا الخارجية ترسمها أجهزة الدولة المختصة، لكن ليس عبر النشاط البيروقراطي والدواويني المحض، وإنما من خلال التفاعلات السياسية والفكرية مع القوى السياسية الداعمة للحكومة والمعارضة لها، وعلى مستوى القواعد مع المؤسسات والمنظمات الجماهيرية والمدنية المختلفة، ويتم بلورتها في برنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، بما يحقق مصالح البلاد وجماهير الشعب، وليس مصالح النخبة الحاكمة فقط، بعيدا عن سياسات الصفقات والمحاور، ووفقا للمبادئ المتوافق عليها دوليا. وعلى ضوء هذه الرؤية الاستراتيجية، يتم تحديد أولويات تحرك السودان خارجيا، وتأثيرات هذا التحرك على البلد. فنقرر مثلا تقوية علاقاتنا مع الصين أو أمريكا، أو معهما الإثنين في آن واحد حتى نستفيد من حالة التنافس بينهما. ونبحث مثلا في كيفية التعامل مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بعد البريكست لصالح مشروعات التنمية في السودان. ونجيب على سؤال ماذا سيستفيد السودان وماذا سيخسر، إذا وجد نفسه مضغوطا للتحرك تجاه إسرائيل، وكيف يجب ألا يكون مجرد كرت انتخابي، عند واشنطن اليوم وعند تل أبيب غدا، ليتم حرقه بعد إنتهاء اللعبة، أو مجرد أراض زراعية شاسعة وخصبة لتوفير الغذاء للآخرين، والعلف لمواشيهم؟. وما هو الوقت الملائم لأي من تحركات السودان هذه؟. باختصار، بدون هذه الرؤية الإستراتيجية، ستتسم كل تحركاتنا في جبهة السياسة الخارجية بالعشوائية، وتبدو كمجرد رد فعل لسياسات الآخرين، مما يجعلنا في وضعية البلد الأضعف التي يستخف بها الآخرون. وسنواصل نقاشنا.