لم أتشرف بمعرفة الأستاذ فيصل على نحو مباشر، ولا أتذكر أننا تقابلنا ذات يوم وجهاً لوجه، ولكن أزعم بأنني أعرفه على نحو كافٍ من خلال أصدقاء مشتركون في مجال العمل الصحفي، وعلى معرفة بإسهاماته التي يعرفها غيري في فضاء مؤسسات النشاط الحقوقي المدنية، مع أنني من المتابعين في مدرجات المشجعين لنشاطاتها .. أقرب إلى حكم الخط. ولا أجد فيما أعرفه ما يدعوني إلى الطعن في صدق وطنيته، وإخلاصه وسع جهده العمل من أجل شعبه، وقد دفع ثمن هذا الصدق والاخلاص دون مَنِّ.
أقول هذا حتى يُفهم ما سأقوله في حدود ما أعنيه فـ(جني جن) القراءة التي يتعب أصحابها في النبش في ضمير من يكتب والخروج بفهم (من عندهم) لا علاقة ولا دراية للكاتب به (والذنب على دريدا).
حسناً.
2
المشكلة عند نشطاء حقوق الإنسان تكمن في خلطهم بين الثورة والسياسة، رغم أن لكل واحدة منهما منطقها الخاص ووسائلها وآلياتها الخاصة. أكثر من ذلك لكل واحدة منهما أهدافها وغاياتها وآلياتها الخاصة.
- الثورة فعل شعبي عام لا تختص به طبقة أو فئة. هي بنت الشارع، تولد وتنشأ وتتربي فيه. هو ميدانها والفضاء الذي تمارس فيه نشاطها وفعالياتها وتحقق فيه انتصاراتها.
بينما السياسة تنشأ بين أربعة حيطان، سواء في دار الحزب، أو المنظمة، أو الجمعية، أو التنظيم (تحت الأرض أو فوقها) ..الخ.
فالثورة: عامة (بلا دعوة). والسياسة: صفوية وخاصة. - الثورة فعل انقلابي شعبي/ مدني. أولويته الأولى هي الهدم والقضاء المبرم على النظام القائم. ولهذا هي صاخبة. وكما قال جيفارا – معللاُ نصف أسبابه – “الثوار يملؤون العالم ضجيجا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء”. ولذا تبدو الثورة لمن ينظر إليها من الخارج وكأنها فوضى عارمة. بينما هي تنظم نفسها داخلياً في خضم زخمها، وتفرز قياداتها أثناء معاركها، وتبتدع التكتيكات وفقاً لمتغيرات معاركها.
والفعل الثوري عفوي/ طازج، عكس الفعل السياسي العقلانوي/ البارد. - أما اختلاف الغايات والأهداف بينهما فيكاد يلخصه بيت شعر التجاني يوسف بشير:
قف بنا نملأ البلاد حماساً ونقوِّض من ركنها المُرجحِّن
ولأن صرخته خرجت من مرجل ثوري، تلاحظ بأنه لم يقل “نقوِّم” من ركنها المرجحن، فالتقويم والاصلاح شغل السياسي، أما الثائر فيهدم البناء المائل والمتضعضع ويقوضه ليُنشئ مكانه بناء أقوى وعلى “ساس” متين.
ترقيع البناء الذي يهدد ساكنيه بالسقوط على رؤوسهم ليس غاية طموحات الثائر ..هو مهمة السياسي وخططه الاصلاحية “الترقيعية”.
3
ملخص هذا وغيره يقودنا إلى نتيجة حتمية، ليس لنا يدُ فيها:
- أن للثورة، بحكم أهدافها وغاياتها ووسائلها وآلياتها، منطقها الخاص بها.
والسؤال الآن: أين موقع مدونة حقوق الانسان في إعراب منطق الثورة ؟.
الثورة ليست ضد حقوق الإنسان. بل هي ذروة سنام الجهاد من أجل حقوق الإنسان، وتحقيقها على أرض الواقع. ويستحق من يموت دفاعاً عنها، وفي سبيل تحقيقها، أن يتبوأ مقعده المستحق بين “الشهداء” المكرمين عند الله.
فإذا لم يكن هناك ثمة تعارض، فمن أين إذن يأتي وهم التعارض والتناقض بينهما ؟.
إذن – ومن سياق حديث فيصل – إنه مبدأ “العدالة”.
هذا المبدأ، رغم اتفاق الطرفين – الثوار والحقوقيون – عليه إلا أنه أيضاً نقطة الاختلاف بينهما من حيث “الإجراءات”.
4
فيصل ومن موقعه كمدافع عن حقوق الإنسان يطالب بإجراءات قانونية “طبيعية” في دولة أركان دولنتها مكتملة. جسدها السياسي معافى لا يعاني من الشلل، وهذا ما ليس حال دولتنا التي بالكاد يمكنك أن تسميها دولة.
فقد صادر حفنة من جنرالات الجيش كامل أجهزتها التشريعية والتنفيذية والسيادية والقضائية. دولة تفتقر إلى جهاز عدلي احترافي صارم مستقيم وقضاء مستقل !.
كيف يمكن تطبيق العدالة في شبه الدولة هذي إذن .. ومن سيفعل ؟.
نعلق السؤال لأن إجابته … الخ.
نذهب خطوة أخرى: من المسؤول عن تطبيق العدالة ؟.
أليست “حكومة الثوار” هي المسؤولة عن تطبيق شعارات الثورة وتحقيق أهدافها؟.
يرد الأستاذ فيصل بأنه:
” لم يأتي في كل مواثيق وبرامج الثورة، بدءا من إعلان الحرية والتغيير وصولا لبرنامج الحكومة الذي اعتمدته الحرية والتغيير، وهي كانت القيادة السياسية للثورة أي ذكر لمصادرات غير قانونية أو حجب الحريات أو منع صحفيين من الكتابة بأي حجة”.
وهذا يتسق تماماً مع قناعاته الحقوقية المشوشة.
5
فهو كناشط في مجال الحريات وحقوق الإنسان (وأفترض دون وعي منه، أو تصريح من بذلك)، يحمل قناعات مضادة لمطالب الثورة بازالة تمكين النظام السابق في مجال سلطته كوزير إعلام، وانه والتزاما بقناعاته تلك قد امتنع عن إغلاق الصحف التي انشأها ودعمها النظام السابق، واحجم كذلك عن إزالة تمكين منتسبي النظام في الأجهزة الإعلامية الحكومية، وانه كان ولا زال، يحمل قناعة ترى، ان هذه المطالب والقيام بهذه الإجراءات امراً يتناقض وبناء الدولة الحديثة !!.
وكأننا بالفعل نعيش في دولة حديثة !!.
وهذا ما عنيناه بالرؤية المشوشة التي تفتقر إلى الحساسية لتتبين خيط الثورة الأبيض من خيط السياسة الأسود.
وإلا هل مات/ت، وجرح/ت، وأغتصب/ت، وحبس/ت، كل هؤلاء الثوار والثائرات، إلا طلباً لهذه الدولة المستقرة القوية المستدامة التي تتحقق فيها الحرية والعدالة والسلام ؟!!.
فكيف يا سيدي يمكن تحقيق ذلك ؟!.
لا يمكن أن تزرع في أرض بها بقايا أعشاب تالفة وديدان وحشرات ضارة وجذور زرع سابق، ما لم “تقلب” الأرض وتزيل بقايا ما تراكم في التربة من رواسب، وتتركها مفتوحة لحرارة الشمس وأشعتها لتطهرها، وتصبح بعدها صالحة مهيأة لزراعة الدولة الحديثة، التي تطرحها، طازجة، ثمار الحرية والعدل والسلام، يانعة، طيبة المذاق.
وقد كانت هذه هي مهمة حكومتكم الانتقالية، سيدي.
6
قوى الثورة الحية ولجان المقاومة لم تتولى سلطة الحكم للفترة الانتقالية. لقد ثارت وواجهت آلة القتل بنبل وشجاعة ونكران ذات، وأنتم تعلمون ما الذي كانت – ولا تزال – تطالب به وتموت من أجله، فلماذا لم تفعلوا ؟.
يرد الأستاذ:
” اي قرار بالمصادرة أو المنع من الكتابة بناء على الموقف السياسي، حتى لو كان معاديا للثورة، هو انتهاك مباشر لأبسط معايير واساسيات حقوق الإنسان وحرية التعبير والإعلام”.
(كيف يعني ؟ وكيف تتأتى المقارنة ؟!)
لقد رددنا على هذا قبل أن يخطه فيصل بثلاث سنوات في المقال السابق جاء فيه حرفياً:
” أن الحزب الذي يريد تسيير مظاهراته هو ذات الحزب والجماعات التي اندلعت الثورة في الأساس للإطاحة بها لما ارتكبته من جرائم في حق الوطن والشعب.
وأن هذه المظاهرات تنظم للإطاحة بثورة الشعب واجهاضها من حزب محظور.
فبأي حق يسمح لهم بتسيير مواكبهم التي تنادي نهاراً جهاراً بإجهاض الثورة ؟!.
تسألهم هذا السؤال، فيرفعون في وجهك مبادئك ذاتها: الحرية والعدالة والديمقراطية.
إما أن يُسمح لهم بـ ”حرية” إجهاض الثورة، وإلا رفعوا في وجهك سيف “الإقصاء” الذي يرميهم به الثوار؟!.
وهكذا تصبح مبادئ الثورة سيفاً في يد أعداء الثورة..
وفي يد من يرفعها معهم من الثوار… على حد سواء !.” (1)
(مرة أخرى : وبيد مَنْ أيضاً ؟!).
7
أترى ؟!
” لو تمثلنا بهم وبممارساتهم فما هي ميزتنا إذن، وكيف يمكن لنا أن ننظر لأنفسنا وللعالم…؟ بيننا وبينهم القانون والعدالة”. يقول الأستاذ.
ولكن أين هي هذه الدولة التي سيطبق فيها القانون وتتحقق العدالة ؟.
أليس من شروط قيامها تجريد أعدائها من مصادر قوتهم التي يوظفونها لإجهاض قيامها، خاصة وأنت ترى تأثير هذه المصادر والموارد المنهوبة في إحالة حياة الناس إلى جحيم ؟.
تسألهم هذا السؤال، فيعيدونك إلى مربع الوثيقة وثقوب قماشتها.
ولكنك تعلم أن الأمر ليس كذلك، فهناك ما يتحاشى قوله، سنتحدث عنه لاحقاً، ولكن بعد أن نبت في أمر “شماعة” الوثيقة، في حلقة أخرى.
مصادر
1/ موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 19 يناير, 2023.
izzeddin9@gmail.com