منذ تعرفت على المدينة وأنا في عز صباي ، دخلتها وصدري يفور بالحقد والرغبة في الانتقام . حدثت نفسي أنهم أخذوا خيرات الريف بمقابل بخس ، اقاموا الإذاعة والتلفزيون والمسرح .. أسموها أجهزة قومية ثم استمتعوا بها هم دون سواهم . استمتعوا بشوارع الأسفلت ورؤية القصر الجمهوري وأسموه قصر الشعب ، وبقينا نحن الشعب بعيدين عنه ، أقاموا أكبر محطة للسكك الحديدية وأقاموا مطاراتهم ثم تركونا نركب الدواب . وأنا أدخلها ذلك المساء لأول مرة هممت أن أهمس في أذنها لأقول لها :
سأغزوك أيتها المعتدية البائسة .. سأقود خيلي ، وأمتشق كل سيوفي ، وستضرب بنات أهلي الدفوف ، ويغنين الأغنيات . سيدخلن في معيتي إلى صالات أفراحك تحت وابل من زغاريدهن ، وأنا أتقدمهن واضعا يدي حول خصر أجمل فتياتك . وسيدخل أهلي إلى هنا غزاة مرفوعي الرأس يفرضون شروطهم ويرفعون اصواتهم ، وستغني فتياتك بأمجاد فتياننا الصناديد ، وسيرقصون وهم يرتدون عراريقهم وسراويلهم ذات الرقعتين في الوسط ، تغطي جباههم الطواقي الحمراء وتحمل وجوههم سحنة الطين اللزج الذي أنجب القطن الأبيض طويل التيلة.
قلت لابد أن يقف أحد الفتية من أهلي وسط الجموع ، كاشفا أعلى جسده ، ملوّحا ومبشرا بالسوط يهزه كمن يتراقص بثعبان حي ، وهو ينادي ويتحدى فتية المدينة ، وكأنه محارب قديم ينادي قبالة جيش العدو : من يبارز ؟ لن يردعه أحد ، ولن يتراجع ، ولن أمنعه أنا، ولو فعلت لقالوا أنني انسلخت عن أصولي ، وأصبحت مدينيا أكثر من أهل المدينة أنفسهم، وسينفضّون من حولي ويتركونني قائما أرقص مع عروستي رقص المدينة البطيء الرتيب ذاك ..
وأهل المدينة بخبثهم المعرفي المتراكم ، لا يستجيبون لفارسنا حامل السوط ، لا يردون على استفزازاته التي يرسلها لهم بأعلى صوته . هاهو يقول لهم : أيها الجبناء ، كيف أخذتم ابن عمي ، كيف اختطفتموه ؟ لقد رأيناكم من قبل تفعلون ذلك بأسود السيرك ، وبتماسيح برك حديقة الحيوان ، لكن لا يظنن أحد منكم أن كل فريسة يسهل أكل لحمها ، فنحن لحمنا مر ، ولن يجرؤ أحد ، حتى فرسانكم أن يلوكوه.
والبارحة اجتمع قومي من جديد في عرس هائل جمع الناس من كافة الألوان . بشرٌ ما رأيناهم من قبل ، ويبدو السؤال الأبدي كأنه مكتوب على جباههم ، ما الذي اتى بنا إلى هنا ؟ كانت الأنوار من كل لون قد بُثت في فضاءات المدينة، والثريات علقت على كافة الطرقات ، وقد انطلقت كلها بالزغاريد والغناء والرقص . خرج الرجال والنساء ، الصبايا والقواعد ، المتوهطون في الفارهات ، والنقل الجماعي ، والراجلون، كلهم آتون من كل صوب فرحون بما لديهم وبما يحلمون به . وانطلق المغنون خلف المايكات برفقة التم تم والدلوكة . وجاء رجال السلطان يقرعون النحاس حتى فاض أنينه ، وجاء ضاربو النوبة وأهازيج الذكر يعطّرون ليل المدينة ويمسحون رهقها . وانطلق حاملو السياط يرتدون زيا افرنجيا ، بدلة كاملة هذه المرة ، وعرضوا عرضتهم القديمة ذاتها وتقافزوا أمام الناس ، وشاركهم جمع كبير لا هم أهل المدينة ولا هم أهل الريف ، خليط بين هذا وذاك ، عرضوا كلهم حتى أشرقت الشمس ، ورقصت النساء رقصات الرقبة ، والمردوم ، والروك آند روك ، والجيرك . اختلط حابل المدينة بنابل القرية ، تشابكت أيدي الناس ، قاموا وقعدوا دون أن يتحدى أحدٌ أحداً ودون أن يستفز أحدٌ أحداً .