تمهيدا أبدأ بوالده همت الذي كان تاجرا وشيخ خلوة ومن رموز البلد.
وكان حاج أحمد عم همت شيخا أزهريا وصار مفتيا في التركية وكان له مناظرات مع تور المضيق حكى لي عنها مولانا جعفر الحاج وتزوج من قرية أرمنا في النوبة المصرية وذريته عشيرة مديدة احتفوا بي خلال زيارتي لهم ضواحي أسوان.
تزوج همت بنت عمه فاطمة حاج أحمد من زوجته الاولى في البلد وكانت بارعة الجمال وحكوا أنها توفيت مسحورة ” معيونة ” مخلفة حاج أحمد الصغير على اسم جده ومات صغيرا في فريق خلال دراسته الخلوة وشقيقته سكينة همت جدتي والدة أمي وكانت صغيرة حين توفيت والدتها.
تزوج همت بعد وفاة زوجته الاولى نفرين حاج التي احتضنت حبوبتي وزوجت لها بل رعتها في ولاداتها وقد تربت مع من أنجبتهما نفرين مع والدها .. آخوها إدريس الذي نحن بصدده وأختها رقية همت والدة د. عبد العزيز محمد فرح وإخوانه وأخواته.
بعد وفاة جدنا همت تزوج نفرين العارف بالله خضر ناصر شيخ الخلوة التاريخية معلم الأجيال فأنجبا عبدون خضر وإخوته ولأنهم نشأوا معا ربطتهم عرى وثيقة.
نأتي لصاحب السيرة
ولد إدريس همت 1913 ولما كان في خلوة فريق وكان عمنا عبد المجيد نصر يزامله سمع بزواج أمه فحزن وعاد لدلقو مشيا مصرا على تطليقها ولكن العمدة فرح صالح صديق والده طيب خاطره فعاد وأكمل دراسته وحفظ القرآن.
سافر بعدئذ لمصر والتحق بالأزهر لكن وصله بعد فترة خطاب من العمدة فرح يطلب عودته للبلد ليعمل معلما فشجعه صديقه علي إدريس فرجع وعمل بالتدريس فور إنشاء مدرسة دلقو في نسختها الثانية 1937 بعدما عطل الانجليز الاولى 1924 وكانت قد نشأت 1912 حين لم تكن بالسودان غير 10 مدارس قياسا بإفادة بابكر بدري في كتابه الباهر ” حياتي ” وهكذا درس جدنا الشيخ ادريس كل أبكار المحس حتى تقاعد’ وهو يعد رابع معلم نظامي في المحس تاليا للأساتذة: عوض الكريم إبراهيم وعبد الرزاق إبراهيم وعلي مختار.
توازيا مع التدريس عمل بالتجارة في سوق دلقو حيث كان والده يملك دكاكين لصق دكان سعيد إبراهيم’ علما أن السوق ومنشآت الحكومة أنشئت امتدادا لأراضي أجدادنا في حلتي نووسة وسروركي.
فضلا عن ذلك كان جدنا من أوائل من امتلكوا العقار في الخرطوم.
تعهد مدى عمره بجامع دلقو العتيق إماما وراعيا.
تزوج زبيدة شيخ علي صبر ” شالي” من أقترى ثم هانم عبد الواحد من سيسة فأنجب وأحسن تربية ذريته وكان في تزويج بناته يراعي:
إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه
فوفقن وكان الأستاذ وردي وقته يتردد على دلقو من سعدنفنتي حيث ربطته صداقات ففاتح جدنا برغبته في مصاهرته لكنه لم يتحمس نظرا لحياة وردي المتصلة بالغناء والسهر والكأس وفق قناعاته.
وربما كانت ذكريات دلقو التي أحبها وأحبته تومض في وجدانه عندما ترنم فناننا العملاق في بواكيره:
أول غرام يا أجمل هدية
يا أنبل مودة
يا نور عينية
بجانب كل مهامه كان يهتم جدنا الشيخ إدريس بالزراعة وغرس النخل حتى إنه دخل غمار الزراعة الآلية بالقضارف مرة لكن شح المطر سنتئذ شكم التجربة’ كما أنه كان يعالج بالطب النبوي قاصديه الكثر وكان موفقا بجانب إلمامه بعلم التنجيم فكان الأهل يراجعونه في تحديد مواعيد عقود القران ومناسبات الختان ونحوها.
كان دوما في طليعة المهتمين بإصلاح ذات البين حتى خارج دلقو لمكانته الاجتماعية وظل عضوا في لجنة التعليم الأهلي التي اضطلعت بتأسيس المدارس الوسطى. وكان مع صديقه وزميله جعفر الحاج في طليعة منظمي احتفالات المولد النبوي وغيرها.
تميز بصبر عجيب حتى إنه كان يمضي في طريقه دون التفات وهو يسمع من يناله بقذى القول .. ” وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما “.
كان يحب الخير للكافة فصادف مرة في كرمة معلمة من دلقو حيرى لعدم المواصلات لمنطقة أردوان مقر عملها فتخلف من اللوري القادم به من امدرمان ولجأ لتاجر زميل ورتب توصيلها بسيارة خاصة تصحبها شقيقة السائق ابن التاجر.
من ذكرياتي معه وما أكثرها
حييته في دكانه:
صباح الخير
فصححني
يا ولدي تحية الاسلام ” السلام عليكم ” في كل الأوقات
من اللطائف عندما رشحت في الانتخابات كان وفد جولة الدعاية الاولى يضمه وقد تزيا بعباءته وجدي الحاج إبراهيم عثمان بالمثل كما الخال نور الدين أحمد فرح وبينما تتحرك بهم السيارة من قلب سوق دلقو قال لهم أخي عثمان إبراهيم مداعبا:
شدوا حيلكم
ولما أنور ينجح حنشوف ليكم عروسات فضحك الجمع!
عندما نقلت لعطبرة جالسته في بيته مودعا وكان بصحبتي أولادي وكانوا صغارا لكنه رغم ذلك أهداهم كتاب رياض الصالحين.
بعده بقليل انطوت هذه الصفحة الناصعة الرحبة برحيله 1995 عن 82 عاما من جلائل الأعمال وسط حزن عم الآفاق يعي فداحة المصاب!
أنور محمدين