عشية صدور قرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، برفع بعض العقوبات الأميركية عن السودان، الذي صدر مساء أمس 6 أكتوبر2017، ويبدأ تطبيقه 12 أكتوبر الجاري، ارتفعت في الخرطوم أصوات مشاركين في مهرجان، حكومي غنائي، سطحي المضمون، أعلن بعض رواده ونجومه عن انفراج اقتصادي وشيك سيشهده السودان، وحياة هانئة ينعم برفاهيتها شعبه المظلوم، بعدما زال سبب المعاناة ومصدر الشقاء، أي العقوبات الأميركية، كما يرى نجوم حفلة التضليل.
هذا النهج مضلل، ولا يخاطب جذور المشكلة السودانية، بأبعادها السياسية والاقتصادية، كما أن أصحاب هذا التوجه الانفعالي، السطحي، يحاولون إيهام الشعب وأنفسهم أيضاً، بأن مرحلة رخاء سريع على الأبواب، وأن رضا واشنطن سيجلب لنظام الرئيس عمر البشير الخير، والعمر المديد.
صحيح أن القرار الأميركي يشكل خطوة مهمة، ترسل رسائل لدول العالم، للتعامل مع الخرطوم، لكن الأهم أن نقرأ أسباب فرض العقوبات، لنقف على ضرورات مرحلة ما بعد القرار الأميركي، الذي يتيح مثلاً للأميركيين وشركاتهم إجراء تحويلات مالية مع شركات سودانية، ومعاملات تجارية، وتسهيلات مالية ومصرفية (الخ).
صدور القرار أتاح فرصة نادرة وتاريخية أمام الرئيس عمر البشير، الذي يمسك بخيوط اللعبة السياسية وحده، لإجراء تغييرات جذرية في نظام الحكم، ليفتح آفاق بناء نظام سياسي جديد، يشيع قيم المواطنة والحريات وحقوق الإنسان، ويوقف الحرب في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
المهم في هذا السياق أن يتم تعديل شامل للقوانين، كي تنفتح آفاق الحريات العامة والخاصة، وتتحقق العدالة والمساواة، وتتم مكافحة الفساد بأشكاله السياسية والاقتصادية، ليشمل ذلك رأس الدولة وكل مؤسسات الحكم.
الفساد السياسي هو مصدر وسبب الفساد المالي، وفي ظل نظام سياسي فاسد، بتركيبته السياسية الديكتاتورية، ينتشر الفساد المالي في كل المؤسسات، وتغيب العدالة والمساءلة، وكي تبدأ محاسبة الفاسدين ومساءلتهم ، فان هذا يتطلب أن يدرك نظام الحكم أن ” التراضي” الوطني بمعناه الحقيقي مهم جداً، لتتكاتف الجهود، وحتى لا يستمر فرض الأمر الواقع على القوى السياسية والشعب، عبر عمليات تجميل ومكياج خادع للرأي العام المحلي والدولي.
هذا معناه أن نظام الحكم أمامه فرصة مهمة، ليتيح أمام أبناء السودان مناخ إعادة بناء البيت السوداني، أي أنه يواجه اختباراً صعباً، حول مدى قدرته على تجاوز نهج المكابرة والفشل السياسي والاقتصادي، ليفتح الباب أمام عملية تشكيل حكم انتقالي ديمقراطي، متفق عليه، يصون حقوق الجميع، وتعقبه فترة انتخابات حرة، بدون تزوير، أو استغلال شخص واحد لإمكانات البلد الاقتصادية والإعلامية والأمنية في حملات انتخابية.
هذا ممكن إذا أراد الرئيس البشير ذلك، بعدما قهر الشعب وأذله ومزق دولته لدولتين، وضرب مقومات الدولة السودانية، التي كانت توفر للمواطن – قبل انقلابه على نظام ديمقراطي منتخب في 30 يونيو 1989- التعليم المجاني، والعلاج المجاني، ولم يشهد السودان فساداً كما يحدث الآن، وهذا ما تؤكده تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية.
اللافت في هذا السياق اعترافات أدلى بها بعض أركان النظام في مراحل خلافهم مع حكم ” الإنقاذ”، وبين هؤلاء أحياء، ومنهم من تُوفًي، ونشير على سبيل المثال إلى ما ذكره الراحل الدكتور حسن الترابي، عن فساد النظام، في حوار مطول مع قناة ” الجزيرة”، وشكل شهادة تاريخية مهمة.
من جهة أخرى، نقول إن القرار الأميركي يمكن أن يشكل حبلاً لخنق وشنق نظام البشير، إذا لم يُحسن استثمار الفرصة المتاحة الآن، بالعمل الجاد والسريع، بتغيير السياسات الخاطئة، والظالمة، والفاشلة في التعامل مع الإنسان السوداني، أو في التواصل مع أميركا ودول أخرى، والسودانيون والمهتمون بالشأن السوداني، يذكرون أن الرئيس قال إن أميركا وفرنسا وبريطانيا تحت “مركوبي” (جزمتي)، كما مارس النظام سياسات انفعالية، حمقاء، من خلال أساليب خطابه السياسي، الأجوف، الذي ينسجم مع أناشيد كانت تقول “أميركا دنا عذابها”!
رغم كل التهريج السياسي، فان واشنطن تعطي أولوية لمصالحها، قبل مصالح الشعب السوداني، ولا تقف عند حدود التأثر بشعارات النظام وشتائمه، والمؤسسات الأميركية لا يديرها فرد كما هو الحال في السودان. واشنطن تعرف أبعاد التطورات والأحداث المتسارعة إقليمياً ودولياً، وهذه التطورات ساعدت الرئيس البشير وحكومته في اتخاذ خطوات نالت رضا دول بالمنطقة وأميركا، لكن رضا دول العالم شيء، ورضا السودانيين شيء آخر، لأنه ينبع من مصالح الشعب والوطن.
يكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك انقساماً في أوساط السودانيين، بشأن رفع العقوبات، السبب في ذلك يعود إلى سياسة الظلم والاستبداد، التي يمارسها النظام، ضد قوى وفئات مهمة وحيوية في المجتمع السوداني، ونشير هنا إلى المآسي والمعاناة الناجمة عن استمرار الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولا يُستغرب أن يدعو ضحايا الحرب والظلم إلى مقاطعة دولية لنظام الخرطوم.
هذا كله معناه أن على الحكومة السودانية أن تستثمر القرار الأميركي برفع العقوبات، ليكون فرصة نافعة للسودان والسودانيين، من خلال إقرار سياسات جديدة، تؤدي إلى نظام جديد، يستظل بظلاله جميع السودانيين، وإذا لم تفعل ذلك، لا نستبعد أن تتحول خطوة ترمب إلى حبل مشنقة، خصوصاً مع استمرار وجود السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلى جانب قائمة أخرى “تضم أشخاصاً متورطين في النزاع في دارفور”.
ما لا يُشار إليه بتركيز وتحليل في الحفلة الحكومية الصاخبة، التي تقام حالياً في الخرطوم، أن هناك قائمتين خطيرتان، فالسودان ما زال مدرجاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب، التي تمنع وفقاً لقوانين أميركية تقديم معونات ومساعدات مالية، وكذلك إعفاء الديون، كما يمكن أن يعارض الكونغرس والإدارة الأميركية تقديم قروض للسودان، وهناك قانون ” سلام ومحاسبة دارفور” لعام 2006، الذي أصبح تشريعاً، تحت سلطة الكونغرس، ولا يمكن أن يلغيه الرئيس الأميركي.
نظام الرئيس البشير اعتمد في تقاربه إقليمياً ودولياً على تقديم مساعدات أمنية، وفي مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، لكن مشواره طويل، مع إدارة أميركية تؤمن بنهج الصفقات الكبيرة، وأكرر أن أمام البشير فرصة لاستثمار القرار الأميركي برفع العقوبات، ليفتح أمام السودانيين فرصة بناء نظام سياسي تعددي، ديمقراطي، عادل، وإذا فشل في تحقيق ذلك، لا نستبعد أن يتحول قرار رفع العقوبات إلى مدخل للابتزاز وممارسة الضغوط الأميركية ومن دول أخرى، لخنق النظام في الخرطوم، من خلال الضغوط وما يسمى “العقوبات الذكية”.
أيا تكن مسارات الأحداث، فان إرادة الشعب السوداني أقوى وأكبر من الإرادة الأميركية وإرادة الحكومة السودانية الديكتاتورية، وبمعنى أشمل، نرى أن أمام الرئيس البشير فرصة لمصالحة حقيقية مع شعبه، لأن مصالحة أميركا ودول المنطقة حتى لو تمت، فستتم بحساباتهم ، ومقاييسهم ورؤاهم، وهي مصالحة ناقصة، لأنها تفتقر للبُعد والمعنى الوطني، ولا تقوى على مصادرة نبض الشعب السوداني، التواق للحرية والعدل والمساواة، والقادر – طال الزمن أو قصر- على انتزاع حقوقه الإنسانية المشروعة، اليوم أو غداً.
modalmakki@hotmail.com