عندما يأتي الحديث عن شعوب السودان فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو مفهوم “القبائلية” (Tribalism). وليس هذا بمصطلح احتقاري جاء به الاستعمار وعلماء الإنسان لوصف هذه الشعوب، بل هو مصطلح متداول تبناه السودانيون أنفسهم وارتضوا به طواعية لوصف التمايز الإثني في أوساطهم. وحقيقة لا يوجد وصف آخر لذلك التمايز. والانتماء القبلي لا يقصر على غير العرب في جنوب السودان مثل الدينكا والنوير بل نجد أن السكان العرب أيضاً في الشمال يرون أنفسهم منتمين أولاً وأخيراً لقبائل. ولا يختلف في هذا المنحى عرب البادية أو عرب الصحراء عن العرب المزارعين الذين يقطنون على ضفاف النيل مثل الجعليين والشايقية.
ما هي القبيلة إذاً؟
هناك بالتأكيد العديد من أوجه استخدام المصطلح. إذ تم استخدامه لوصف شعوب بدائية لحد بعيد وكائنة في حوض الأمازون. كما أنه استخدم في تعريف منضومات سياسية معقدة وضخمة مثل بعض مجموعات الكازاخ (Kazak) والمغول (Mongol).
أما في السودان، فإن مفهوم “قبائل” يحتوي نوعين متمايزين من أنماط الانتماء. ففي ناحية، توجد جماعات مثل “لنوير” من دون شيخ أعظم يحكمها، وعليه فان مسمى “قبيلة” يأتي من واقع وجود لغة مشتركة وثقافة وعادات تميز هذه الجماعات عن جيرانيها. وفي الناحية الأخرى، توجد قبائل مثل “لشايقية” لا تختلف عن جيرانها لغة أو ثقافة ولكن تسمى “قبائل” لأن لكل منها شيخ حاكم ونسب قبلي مميز. فسكان شمال السودان من عرب وبجا هم قبائل (Tribes) تنطبق عليهم التسمية التي كثيراً ما يستخدمها علماء الانثروبولوجيا وهي “مشيخات” (Chiefdoms). وقد اتسمت هذه المشيخات عبر التاريخ بالخصائص التالية:-
1- وجود إحساس بهوية مشتركة ونسب عام وجامع مؤسس على أسطورة التحدر من سلف أو جد بعينه.
2- وجود شيخ حاكم قوي الشخصية تجتمع في يديه وأقرباءه كل مقاليد الأمور تقريباً.
3- أسلوب الحكم شخصي دون آليات رسمية للإدارة بجانب ندرة أو انعدام القدرة على تنمية خاصية النبالة (Nobility) أو البيروقراطية.
4- وجود حالة تناحر دائم مع أقوام مجاورة,
ومن الواضح أن أي تعريف لمصطلح “القبيلة” لا ينطبق على النوبيين، فهم الوحيدين بين الأقوام السودانية الذين تخلوا عن أسلوب الحكم القبائلي ذي الطبيعة السياسية والاجتماعية الفوضوية قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة. ومعلوم أنهم في أوج ملكهم في كرمة (Kerma) من 1785 ق.م إلى 1580 ق.م كانوا قد أقاموا دولة إمبراطورية (Imperial State) ذات نفوذ على شعوب شتى. كما أنها ناهضت سلطان فراعنة مصر أنفسهم. وتحت طائل الاستعمار المصري في حقبة الدولة المصرية الحديثة (1580 ق.م – 1000 ق.م) أصبح النوبيون من رعايا التاج الفرعوني واستطاعوا رغم نير الاستعمار أن يتبوءوا مناصب إدارية عليا في المملكة. ولا توجد في المدونات العديدة الخاصة بهذه الحقبة الاستعمارية أي مؤشرات إلى أن النوبيين كانوا آنئذ منقسمين إثنياً أو سياسياً. وفيما بعد الاستعمار وقيام مملكة كوش (Kush) المستقلة (700 ق.م – 350 ق.م) ارتقى النوبيون بالمركزية الادارية والوحدة السياسية الى مستويات أعلى من ذي قبل بحيث تمكنوا من اقامة أمبراطورية بلغت في حجمها أربعة أضعاف مصر نفسها. وفي أعقاب معاهدة ساموس (Samos) في عام 23 ق.م تعامل الرومان مع أمبراطورية كوش بحسبانها قوة ند. وليس ثمة ذكر لانقسامات قبائلية وسط مواطني كوش في كتابات الزوار الرومان والاغريق الذين تحدثوا بإعجاب عن السياسة والحضارة في مروي (Meroe).
حقق النوبيون القد الأكبر من التحرر من المجددات القبائلية في القرون الوسطى عند قيام ممالك ما بعد كوش، وعلى الرغم من وجود انقسامات لغوية وسط النوبيين في تلك الحقبة وحتى الآن، فإن ممالك نوباتيا ومقرة وآلوا (علوة) (500م – 1500م) لم تكن عبارة عن كونفدراليات قبائلية بحدود فاصلة، بل كانت دويلات قومية (National – States) بكل ما تحمل العبارة من مغزى حديث، وكانت الأولى من نوعها في القارة الافريقية. ولم تكن إدارة هذه الدويلات مناطة بملوك مدنيين ومجردين من القداسة فحسب، بل كان هناك أيضاً كيان هرمي معقد من البيروقراطيين في السدنة. وأهم من هذا وذلك ان منهاج الإدارة كان قائماً على أساس منظومة من القوانيين تم تطويرها بطريقة جيدة بحيث تسري على الحكام والرعايا سواء بسواء. وهكذا مكنت هذه المنظومات القانونية المستحكمة والبعيدة عن الأهواء والنزوات الشخصية لدى الحكام، الدويلات من التفاوض مع الحكام المسلمين في مصر بشأن معاهدة ثنائية (البقظ، عام 653م) ضمنت السلام للنوبيين لأكثر من ستة قرون. وعلى الرغم من شهرة النوبيين خلال القرون الوسطى بالبراعة القتالية، فإنه لم يحدث على الإطلاق أن شنت الدويلات حرباً واحدة ضد بعضها، أي قتال بين دويلة نوبية وأخرى.
وثمة تقدم آخر أحرزته الأمم النوبية في القرون الوسطى أبعد من القبائلية والإمبريالية على حد سواء، فقد حققت أقصى حد من الفصل بين الكنيسة والدولة بقدر لم يتوفر لأي أمة قبل العصر الحديث. فقد كان أمر تعيين الموظفين المدنيين وتحديد مسئولياتهم من اختصاص الملوك القائمين، على حين كان الهرم الكنسي بمجمله معيناً من قبل بابا الأقباط بالإسكندرية وخاضعاً لمساءلته. وإذا ما سلمنا بصدق الوثائق العديدة التي تم الكشف عنها في قصر إبريم، نوقن بأنه لم يكن هناك تداخل على الإطلاق بين البنائين البيروقراطيين. وقد حدث هذا في زمن كانت البلاد الإسلامية المجاورة تخضع لحكم خلفاء ثيوقراطيين، مع وجود تداخل وتشابك شديدين بين سلطات الكنيسة والدولة في كل الإمبراطورية البيزنطية. وعلى الرغم من الفصل التام الذي كان قائماً بين هذه السلطات في أوروبا الغربية حيث الرومان الكاثوليك، فإن مهام تعيين رجال الدين من أساقفة وقساوسة كانت في أيدي الملوك وليس البابا.
من وجهة نظر شخصية، أعتقد بأن حرية الضمير (Freedom of Conscience) هي من ضمن أثمن الحريات التي نمتلكها في العالم اليوم. لذلك فإنني أرى أن فصل الدين عن الدولة هو أهم وأميز إنجاز حققة النوبيون. ولعله من سوء الطالع بالنسبة لهم أن يحكموا السودان اليوم بنظام حكم يسعى للإطاحة بذلك الإنجاز مرجعاً عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى أيام الخلفاء. ولا غرابة على الإطلاق والحال هكذا أن أجد النوبيين من ضمن أكثر المعادين صراحة لهذه السياسة التقهقرية. وبالنسبة إلى تاريخ السودان الموغل في القدم يتضح أن النوبيين كانوا دائماً سباقين في مضمار التقدم الحضاري. فإنهم أول من تعلم الكتابة بالهيروغليفية وهم أول من أوجد لاحقاً حروفاً أصلية حقيقية في أفريقيا، وهم الذين أوجدوا حروفاً لكتابة اللغة النوبية في حين أصبح كثيرمنهم على معرفة باليونانية والعربية. وهم الذين طوروا كتابة النصوص القانونية وحققوا أول فصل حقيقي بين الدين والدولة. وهم الذين شكلوا الطبقة التجارية الرئيسية تحت الحكم التركي – المصري. كما أنهم أصبحوا بمثابة العمود الفقري للإدارة المدنية إبان الحكم الاستعماري الإنجليزي المصري. وأخيراً، هم الذين كانوا ضمن طلاب جامعة الخرطوم في مراحلها الأولى.
وبصفتهم رسل تقدم حضاري عبر التاريخ، فإن من الواضح أن النوبيين تضرروا دون وجه حق من الإدارة الرجعية “المهيمنة على السودان حالياً”، وبدلاً من التطلع نحو مستقبل باهر، فإن قادة السودان الحاليين يسعون لاقتياد الدولة إلى الوراء حيث العهد الذهبي المفترض في تاريخ الإسلام. هذا العهد الذي انتهى حقيقة عند غزو المغول قبل سبعمائة سنة. ولكن حتماً سوف يتعلمون كما تعلم غيرهم من الأصوليين أن مجرى التاريخ إلى الخلف ليس أهون من معاكسة جريان النيل.
إن لنظام الحكم الحالي أيام معدودات ثم يذهب شأنه شأن أصولية السلاطين العثمانيين التي سعت لإحياء الخلافة. وعندما يحل يوم الزوال فإنني أتوقع تماماً أن يستعيد النوبيون قدرتهم على مواصلة دورهم التاريخي كقادة تقدم في السودان. وحتى ذلك الحين، أعتقد أنه حري جداً بالنوبيين حالياً أن يعتبروا أنفسهم شعباً (Nation) وليس قبيلة ولا شعب أكثر أحقية تاريخياً من النوبيين.
* البروفيسور وليام آدمز: أستاذ علم الإنسان بجامعة كنتاكي ومؤسس الجمعية العالمية للدراسات.