صناعة الملوك والحكام هي مهمة يقوم بها بعض الاعيان والرموز لدى بعض المجتمعات أو القبائل لاختيار القيادة. في تاريخ الشعوب، فإن عملية أختيار القيادة تفرزها الظروف والاحداث بناء على معايير محددة ، كالشجاعة والاقدام والحكمة وحسن التدبير في قيادة المجموعة أو القبيلة في الحروب وتجاوز التحديات، لذلك كانت القيادات حقيقية ومقنعة للرعية. السودان عبر التاريخ وفي حضاراته الزاهرة التي أثبتت الدراسات الحديثه أنه كان مهد البشرية وبؤرة الانطلاق الى جهات المعمورة الاخرى ، كان يصنع ملوكه وكنداكاته بنفسه ولا يصنعها له الآخرين. و تحكي الاثار والوثائق أنه كان يتمتع بالتنوع الاجتماعي والقبلي والاثني منذ القدم ويديره بنجاح . ففيه الزنجي ،الحامي ، والعربي وكان التعريف المطلق لهذه المجموعات أنهم نيليون أو نوبه أو قل “Nubate ” التي لا أدري يقينا إن كانت مشتقة من كلمة نبتة القديمة ، أم لها مصدر اشتقاق آخر مثل كلمة ” نوب ” التي تعني الذهب، ومن ثم بُني عليها االنطق اللاتيني ثم رسمت عليها كلمة ” نُوبة ” وليس ” نوبا “.
وعلى قدر مفاهيم ومصالح تلك المجتمعات، فقد تعايشت وتعاونت على بناء حضارات راسخة راقية ، وعند الخطر توحدوا ضد الغزوات الخارجية وصدوها. بل انهم تجاوزوا حدودهم شمالاً ليبسطوا الامن والاستقرار وحماية شعوب ومجتمعات مستضعفة، وحمايتهم من طغيان واضطهاد الآخرين ، حتى وصلوا أرض فلسطين الحالية كما يذكر التاريخ. وفي تقديري أن الإخفاق في ادارة التنوع والعدالة، قد عصفت بآخر دولة سودانية ، في بداية الفتح العربي الاسلامي للسودان بقيادة عبدالله بن السرح . فبنود ما سمي باتفاقية ” البقط “. تلك الاتفاقية الجائرة قد قننت الرق رغم أن الاسلام قد جاء بتعاليم وتشريعات واضحة، حاربت الرق، لكن يبدو أن مجتمع فجر الاسلام لم يتخلص بعد في وقتها ، من مفاهيم الارث الاجتماعي لنظام الرق . فكانت أحد بنود اتفاقية ” البقط ” الالتزام بتزويد حكام الفتح في مصر بعدد اربعة آلاف من العبيد سنوياً. واستمر ذلك لمئآت السنين ، مما الحق وصمة عبيد ببلد كامل والتي أخذ يعيرنا بها جيراننا شمال الوادي، كلما وقع خلاف بيننا حتى اليوم. ونستغرب كيف وافق حكام ذلك الزمن بهذا الشرط ، أنها غفلة حكامنا التي ما زالت تلازمنا حتى اليوم.
كتبة التاريخ لا يقولون الحقيقة كاملة، لأن من يكتبه يهدف الى تقديم معلومات مغلوطة تبرر ويبني عليها مواقف وافعال . لكن بالتأكيد فإن الشعوب ذكية وتفهم وتقدر عظم الجرم والخطأ . وإن الوفاء بتنفيذ أتفاقية ” البقط” في نهاية الامر وقع على بعض الرعايا دون آخر من المملكة السودانية ، مما تسبب في تفكك الدولة القوية الموحدة بأبتعاد بعض المكونات هرباً من اصطياد ابنائهم. فأنتشرت مكونات الدولة الاجتماعية جغرافياً شرقا ، غرباً وجنوباً . فتركت لنا الصورة التي شكلت توزيع التنوع الاجتماعي جغرافياً وخلقت غُبن تجاه بعضهم البعض حتى اليوم، وتلك من تجارب فشل السودان في إدارة التنوع والعدالة بين مكوناته الاجتماعية.
في العصر الحديث كانت مهمة صناعة الملوك تمارسها جهات دولية مثل امريكا واوربا أو اقليمياً مثل جارة الوادي شمالا حفاظا على مصالحهم، أويمارسها الجيش الوطني عن طريق الانقلابات لتنصب الرؤساء، ولا حظ أو دور للشعب في إختيار ملوكه أو حكامه، إلا في حدود ضيقة عن طريق الانتخابات التي ما أن تتم حتى يجهز عليها العسكر.
ثورة ديسمبر المجيدة 2018م جاءت بشعار ” حريه .. سلام .. عدالة ” ومهرته بشهداء ودماء شباب وكنداكات، ضاربة بذلك اروع الامثلة في التضحية والولاء لهذا الوطن. لكن للأسف ما زال صناع الملوك يقفون على الرصيف وينتظرون أنتهاو أي فرصة استغلال أي فرصة لإستعادة ممارسة دورهم التاريخي الذي يحرصون على استمراره.
السودان بعد سقوط الانقاذ وسوءآتها التي قضت على كل الفضائل التي تميز بها الشعب السوداني ، كانت الحصيلة بعد ثلاثين عاماً هو دمار كل القيم ، مع ازدياد شهية وشراهة الحصول على المال والتطاول في البنيان، ادواتهم في ذلك الفساد وليس الجهد وزيادة الانتاج. ورغم الشعارات الرائعة التي ترفعها ثورة ديسمبر المجيدة ، إلا أن الآخر لم يستوعب بعد معاني “حرية .. سلام .. عدالة.. ” ولا التغيير المنشود. ولا زال البعض يحاول إعادة انتاج مايفرق بين الناس في ثوب جديد. إذ ما زال فهم المواطنة دون معناه الحقيقي في نيل الحقوق والواجبات، والتي يمكن أن تأتي بالحلو أو غيره رئيساً للبلاد ، طالما توافقت القوى السياسية على اسس عادلة للحكم ، كخيار سوداني وليس مفروضاً من قبل صناع الملوك في الداخل أو اقليمياً أو دولياً. فالزعيم جون قرنق ، كان صادقاً بعد نيفاشا وتفاءلت فيه جماهير الخرطوم خيراً فاستقبلته بترحاب كان يمكن أن يصنعه ملكاً لكن ارادة الله قدرت رحيله مبكراً.
حميدتي قائد الدعم السريع بما عليه من ملاحظات ، لكن التوبة الصادقة والاعتذار قد تخلق الرضا، بعد التقييم والتحقق من صدقها و تساعد في تجاوز الكثير من الاخطاء والخطايا المحسوبة عليه. وإن مواقفه الاخيرة واعترافه بخطأ مشاركته في انقلاب 25/ اكتوبر الذي عطل مسيرة التحول المدني الديمقراطي ، وإعلان مساندته المطلقة للاتفاق الاطاري ، جعلته يسجل هدفا وطنياً راجحا لكفته ، عكس البرهان الذي لم يستفد من الدرس . إذ ما زالت مواقفه متذبذبة تجاه العملية السياسية برمتها. بل بات واضحاً أن البرهان يراهن على صانعي الملوك داخل الوطن من بعض العسكر والفلول أو تدخلات شمال الوادي المكشوفة لتنصيبه وتتويجه ملكاً أمتداداً لحكم الانقاذ. وفي سبيل ذلك فهو يغض الطرف عن الوجود العسكري المصري في مروي ويفتعل الازمات بتحركات الدعم السريع في ارجاء البلاد التي يستغيث به المواطن، بل بعض وحدات الجيش نفسه لضبط الامن، وكبحاً للتفلتات الامنية التي يتجاهلها قادة الجيش من الفلول ، تعميقاً لازمة الحكم في البلاد.
واضح جداً أن الشارع وبعض القوى السياسية بل بعض القيادات المتوسطة من القوات المسلحة، يتعاطف مع قائد الدعم السريع الذي يدعم ” الاتفاق الاطاري ” الخيار الاخير للوطن، وسعية للضغط لتحرير الوطن من بعض التجاوزات لسيادته. لكن ايضاً واضح جداً أن البرهان يراهن على الفلول كما هم يراهنون عليه في اعادة ناموس الحياة السودانية عكس عقارب الساعة بإعادة انتاج الانقاذ الثانية التي تجاوزها شباب الثورة وكحقيقة ، فإن الله قد أنتزع الملك من جماعة الانقاذ ولم يبق من ذلك إلا فقرة الاذلال التي لم يتعرضوا لها لضعف القوانين وعدم حدة اسنان ثورة ديسمبر المجيدة وسماحتنا كسودانيين.
القوى السياسية المدنية كجهة وازنة وعلى راسها حزب الامة القومي بثقله السياسي والاجتماعي ، يمكن أن تلعب دوراً رائداً في نزع فتيل الازمة. والميزة التفضيلية لحزب الامة أن في قياداته عسكريين يتمتعون بتأثير قوى على طرفي النزاع مستندين في ذلك الى قاعدة حكيم الامة الراحل الامام الصادق المهدي طيب الله ثراه والذي كان يدعو الى حسن التعامل مع الجيش وعدم الاساءة له والقبول به كأمر واقع على الاقل في مرحلة تأسيس المرحلة الانتقالية. ولحسن الحظ أن رئيس حزب الامة المكلف يقود مبادرة بمعاونة القوى السياسية الاخرى لمعالجة الازمة، فله التحية في ذلك. والوطن يراهن على ذلك . أعجبت جداً بموقف المؤتمر الشعبي على لسان متحدثه الاستاذ / كمال عمر الداعم للاتفاق الاطاري والتسوية.. نعم يبقى الحفاظ على سلامة الوطن هي الاولوية وفي ذلك أكد الكثيرون من القوى السياسية الاخرى.
وفي الختام إذا كانت هناك كلمة أخيرة، فهي الى أهلنا في مدينة مروي الباسلة ، فانتم اصحاب بصمات في تاريخ السودان القديم والحديث، ونرجو ونأمل أن لا تدخروا الحكمة مع الحسم في معالجة وجود العسكري الاجنبي المصري وسيطرته على مطار مروي ، إذا تأكد صحة ذلك. أما تحرك الدعم السريع ووجوده في مروي أو غيرها من المناطق ، فذلك شأن داخلي والمؤسسات العسكرية قادره على معالجته. وفي هذا فإنه ما لا زال في ذاكرتنا مأساة ضرب الجزيرة أبا ، من قبل الطيران المصري. ومروي العزيزة يجب أن تظل آمنة، وأن لايتكرر فيها صراع الافيال كما حدث في دار فور وجبال النوبة العزيزة … نعم إن سيناريو الوجود الاجنبي في مروي ، قد يتسع لضرب مؤسسات الوطن العسكرية النظامية واحتجاجات شبابنا بل وتهديد جوارنا العزيز شرقاً ، وهذا ما نرفضه بقوة. نعم بكل تأكيد فإننا لا نعادي جارة الوادي شمالاً ، والتي لا ننكر أن لنا معها علاقات ذات خصوصية عالية ومصالح مشتركة لابد من مراعاتها ، لكن الندية مطلوبة والتوازن مطلوب ولا مجال للفهلوة والشطارة فالعيال كبرت ولكن مع ذلك نقول ، أذا تطايبت النفوس فالسودان هو عمق مصر ويكملان بعضهما استراتيجياً، ولكن بفهم ورضا البلدين، وليس على قاعدة صناعة الملوك والاسياد التي يحاولون فرضها على السودان.
جزا
جزاك الله خيرا يا أخي دقاش
وليت قومي يعلمون….