لم يفاجأني الصراع الدموي البشع الذي اندلع اليوم (١٥ أبريل ٢٠٢٣) بين قائدي الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان والدعم السريع الفريق محمد حمدان في شوارع مدن سودانية وأهمها الخرطوم .
لم أفاجأ، لأن الحرب أولها كلام ، وقد بدا واضحا خلال الأيام الماضية أن الخلاف بينهما اتسعت رقعته وصار ساخنا وجذريا رغم تنفيذهما في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ انقلابا عسكريا أطاح فترة حكم مدني انتقالي .
بعيدا عن أي حكم متسرع أو منحاز بشأن من بدأ إطلاق الطلقة الأولى، وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة ، فان الوقائع الملموسة تشير الى إن البرهان واصل بتصريحاته وممارساته سياسات المراوغة بشأن الالتزام بتوجه يدعم الانتقال الديمقراطي ، وخصوصا انه صاحب نظرية (الوصاية) التي أعلنها عشية انقلابه المشؤوم ،كما اتخذ سياسات خارجية مدمرة للسودان ومواقفه التاريخية .
حميدتي كما رأيت في وقت مبكر أنه كان الخاسر الأكبر من مشاركته في إنقلاب البرهان .
البرهان نجح في شحنه مستخدما أساليب وجهات عدة ، وجره الى مربع خاطيء ، فشارك في الانقلاب لكن حميدتي كما قال اكتشف منذ اليوم الأول أن الانقلاب العسكري فتح باب عودة قيادات وعناصر حزب (المؤتمر الوطني) أي عناصر تصف نفسها ب (الاسلاميين) وكانت أطاحت بهم ثورة الشعب السلمية الباهرة في ٢٠١٩.
وصول حميدتي لتلك الخلاصة ،أي خطأ المشاركة في انقلاب ، جاء متأخرا جدا، لكن يحسب له أنه اعترف بخطأ مشاركته في الانقلاب ، ثم أعلن دعمه الانتقال الديمقراطي وخيار الشعب بحسب كلامه .
أيًا يكن هدف قائد الدعم السريع من تلك التصريحات فانها أكدت أنه والبرهان على طرفي نقيض .
رأيت وأرى أن انقلاب البرهان – حميدتي رغم انه ضرب الفترة الانتقالية وأضر بالسودان ضررا كبيرا في كل مجالات الحياة فانه أكد مجددا فشل الانقلابات في تسويق شعارات كاذبة وخادعة ،وهذا ما أكده واقع الحال الراهن في السودان حاليا.
البرهان -وهو قائد الانقلاب الذي استخدم ويستخدم القوات المسلحة السودانية لتحقيق أهدافه وتطلعاته الشخصية ورغبات حلفائه من انقلابيي الأمس واليوم – فشل في ادارة شؤون البلد فزادت معاناة الشعب وآلامه واستحكمت في الوقت نفسه حلقات الحصار والتهديد الدولي بالملاحقة .
أما حرب الشوارع في السودان اليوم فهي نتيجة طبيعية لانقلاب البرهان – حميدتي.
لم يكن ممكنا استمرار سلطة انقلابية (برأسين)…
أرى أيضا أن انقلاب البرهان – حميدتي أدى الى نتائج ايجابية ، ولعل أهم نتيجة هي التأكيدعلى حيوية الشارع الشبابي والسوداني بشكل عام الرافض للانقلابات ،ولهذا لم يكن أمام الانقلابيين سوى طريق المراوغة مع سياسيين وقادة أحزاب فطرقوا باب الحوار ،وصولا الى مرحلة (اتفاق إطاري ) تعثر التوقيع على مضمونه النهائي قبل حرب المدن الحالية .
البرهان ومراوغاته وضغوط حلفائه القدامى والجدد من أهم أسباب التعثر والفشل في توقيع (الاتفاق الاطاري).
كتبت مقالا في ٦ ديسمبر ٢٠٢٢ عن (الاتفاق الاطاري ) بعنوان (الاتفاق الإطاري في معركة الرأي العام ) واختتمه بالقول أن من يلجأ الى انقلاب في أي وقت هو الخاسر الأكبر .
جاء في المقال (من بلجأ الى استخدام بندقية الشعب لتنفيذ انقلاب عسكري في أي وقت ، لقهر المواطن وقتله وذبح تطلعاته وأحلامه الجميلة هو أكبر الخاسرين في معركة الرأي العام ).
في مضمون هذا الرأي إشارة ضمنية و توقع وأحساس عميق بأن هناك من يخطط ويسعى للاطاحة بكل المعادلات وبينها ما وصف ب(الاتفاق الاطاري)
وفي ضوء هذا أرى أن ما يجري في السودان حاليا هو نوع صارخ ورديء وبشع ومن أسوأ أنواع الانقلابات التي تريق وتسفك دماء السودانيين .
وفيما أدعو الله أن يجنب شعب السودان تبعات هذه الجرائم والأعمال الدموية وأن ينعم على أهلنا جميعا بالاستقرار والأمن والطمأنينة، فانني أرى في الوقت نفسه أن من أشعل أو أشعلوا الحرب اليوم بشكل مباشر أو من خلف ستار سيحترقون بنيرانها طال الزمن أو قصر وستطالهم يد العدالة وغضب الشعب .
أرى أيضا أن ما يجري في السودان حاليا من اقتتال في شوارع سودانية سيرسخ قناعات السودانيين بأن حكم العسكر محرقة كبرى .
في صفوف العسكريين من يتعطش الى الدماء ولا يحترم دوره الحيوي والكبير والمهم في حماية الشعب والوطن ودولة المؤسسات وخيار الشعب الديمقراطي، لكن هناك من يحترمون أدوارهم العسكرية الوطنية في دولة المؤسسات وينحازون بقوة وشهامة ووعي الى صفوف شعبهم ونبض أهلهم .
هذا معناه أن الحكم المدني الديمقراطي،وحكم دولة القانون والمؤسسات هو أفضل بديل كي يبني السودانيون بمختلف قواهم وفئاتهم وطنا يواكب روح العصر ويحترم حقوق الإنسان السوداني في الحرية والعدالة والعيش الكريم .
يبقى السؤال الأهم في هذا السياق ، هل تفتح المآسي والأوجاع وشلالات الدم السوداني الغالي والمهدر بغزارة اليوم وبالأمس وخلال سنوات عدة في معارك الكراسي الساخنة دروب الوعي بحقائق العصر، لتعيد العسكر للثكنات وتساهم في بناء دولة عصرية ترتقي الى مستوى وعي وتطلعات الشعب وخصوصا الشباب؟
قناعتي أن الأحداث والتجارب المريرة في تاريخ الشعوب تحمل دروسا مهمة وحيوية ونافعة ، رغم ما تحمله من مواجع وتحديات.
لندن ١٥ أبريل ٢٠٢٣