هل استباحت قوات الثورة المهدية مدينة الخرطوم في يناير 1885 ؟
محمد المصطفى موسى
التدابير التي اتخذتها الثورة المهدية لمنع التعديات المتوقعة عند اجتياح الخرطوم :
أولاً، التدابير الاستباقية :
في ديسمبر ١٨٨٤ ، كتب المهدي لقواته التي حاصرت الخرطوم من جهة السبلوقة تحت إمرة أحمد المصطفى ود أم حقين وأحمد ولد فائت والعطا محمد دود :
” حيث لا يخفى عليكم ان الظلم دمار وهو محرم كتاب وسنة وليس من دأب الأخيار وإنما هو طريق الكفار الفجار . وانتم أنصار الله وقد خرجتم في سبيل الله ، فاحذروا من فساد هجرتكم وصونوا أنفسكم من التعرض للناس في حقوقهم وأموالهم بالطريق لغاية وصولكم ذهاباً وإياباً واعلموا ان من تعدى على احد في نفسه أو ماله فنحن غير راضين عليه ولابد أن ينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة” .
و استبقت الثورة واقعة تحرير الخرطوم بمنشورٍ صادر من القائد لقواته في الميدان يدعو فيه لإكرام المدنيين الهاربين من جحيم الحصار داخل المدينة وتأليفهم بحسن معاملتهم حين يقول : ” فألفوا عباد الله الذين يخرجون مُسّلمين ومنقادين بأنواع التأليف وتلقوهم بالإكرام والتشريف .. ولا تتلقوا احداً من المنقادين بتعنيف ” .. وفي ذات المنشور المطول يشدد قائلاً : ” واكرموا الذين يأتون مُسّلمين وخصوصاً العلماء ومن كانوا من أهل الوظائف الكبار ، وبالأخص نحو الأمين الضرير ” .
و سعى المهدي من خلال رسائله المتكررة لغردون لإدراك هدف واحد ألا و هو الضغط على الأخير بشتى السبل لتسليم الخرطوم حقناً لدماء المدنيين .. وذلك على نحو رسالته المؤرخة بأواخر اكتوبر 1884 والتي جاء فيها :
” كن على يقين أنني على علم بحضور عساكر الانجليز بجهة دنقلا ولكن لست مبالٍ بهم ولا بغيرهم بفضل الله ” إلى أن يقول .. ” ولولا مراعاة حسم دماء المسلمين لضربت صفحا عن مخاطبتك وبادرتك بالهجومات التي لا أشك في نجاحها . فسلم تسلم انت ومن معك ، وقد نصحتك وأنصحك وإلا فالحرب بعد ذلك والسلام علي من اتبع الهدي ” . وكتب الأمير ابو قرجة خطاباً مماثلاً لغردون في ١٨٨٤ داعياً اياه لتسليم المدينة حقناً للدماء و فيه قال : ” إني حضرت من قبل المهدي أميراً على البرين والبحرين ، وقد أخذت فداسي وجئت إلى الخرطوم وأنصح أهلها بالتسليم . فإذا سلموا سَلِموا و أمنوا على أموالهم و أرواحهم و إلا فلابد لي من محاربتهم وأخذ المدينة منهم عنوة والسلام “.
بيد ان معاندة الجنرال الانجليزي و رفضه تسليم المدينة سلمياً للثوار دفع قواتهم لاقتحامها حتى تتفرغ لمجابهة الغزو الانجليزي بقيادة قوات ولزلي في الشمال . و عندها كانت وصايا المهدي المشددة الأخيرة لجيش الثورة المتأهب لتحرير المدينة و التي أوردها نيكول و أكد على مضمونها الشيخ بابكر بدري في مذكراته :
” اذا نصركم الله الغردون لا يُقتل .. الفقيه محمد الامين الضرير لا يُقتل.. .. كل من استسلم و رمى سلاحه لا تقتلوه.. كل من أغلق باب بيته عليه لا تقتلوه ” . و أورد علي المهدي في أوراقه بعضاً من نص خطبة المهدي في فجر يوم المعركة :
” و عليكم بقتال من في خط النار أولاً حتى يدخلوا البلد و لا تقتلوا من يرفع لكم راية التسليم و لا تقتلوا من يقفل بابه عليه “.
ثانياً : التدابير الميدانية لمنع التعديات :
و كانت قيادة الثورة المهدية على دراية بما قد يصحب اقتحام المدن من انتهاكات ، لذلك كتب المهدي منشوراً لقواته في اعقاب تحرير الخرطوم مباشرة بالعام ١٨٨٥ ، قال فيه :
” ان النساء الخارجات من ققرة الخرطوم جميعا قد أحببنا ان يعطين لازواجهن ولا يجوز لأحد من أصحابنا وأحبابنا ان يتزوج منهن .. فذوات الأزواج يسلمن لازواجهن وكل من لا زوج لها تكون لدي أمين مأمون( المقصود شخص محرم ) ويجري راحتهن.. فالحذر من التزويج لأحد من نساء ألقياقر المذكورة صغيرة او كبيرة .. ثيباً او بكراً ومن تزوج بواحدة من المذكورات بدون نظر حكم الله فهو الجاني علي نفسه والسلام “. و أورد المؤرخ البريطاني نيكول ما مفاده أن المهدي و النجومي كانا من الحرص بمكان على حياة المدنيين . وعندما دخل المهدي المدينة ظافراً وجه الأمير أحمد ود سليمان أمين بيت المال .. بإرجاع كل امرأة من أهل المدينة إلى أهلها أو أي قريب لها قبل غروب الشمس.
ثالثاً ، التدابير الجنائية و العقابية لحسم التفلتات :
ولم يقف سيل منشورات المهدي عند ما سبق من أوامر ادارية بل جنح إلى الخروج بما كتب إلى حيّز التطبيق الواقعي الصارم . و تبدى ذلك حينما حاد بعض المتفلتين عما ورد سابقاً فمال بعضهم للتعدي على بعض النساء ، عندها لم تتأخر تدابير الثورة لانشاء ما يشبه المحاكم الميدانية بعقوبات تعزيرية تتراوح بين الجلد و السجن لكل من تثبت ادانته بتلك الانتهاكات ، و أوكل أمر التنفيذ الشرعي للخليفة عبدالله . و في ذلك كتب المهدي للخليفة قائلاً :
” لا يخفى حبيبي ، اننا نبهنا من أول الامر أن نساء الققرة( ققرة الخرطوم) من لها زوج منهن تسلم اليه ولا يعارضه فيها احد . وقد بلغني ان بعض الأنصار ار يقولون أن أمر المهدي لا يلزم العمل به . وقد وقف على ذلك بعض الاخوان الصادقين ” .. ثم يتسأل عن مدى إيمان هؤلاء المتفلتين بالثورة نفسها حين يقول : ” فكيف لا يقوم الأنصار إن كانوا أنصارا حقاً بأمرنا حالاً ؟ وما أظن الذين يفعلون هذا إلا عائقون عن سبيل الله صادون عباد الله عن طاعة الله اتباعاً لأهوائهم . فأفحص يا صديقي هذا انت ومن معك من الخلفاء والأنصار الصادقين وانه من يفعل مثل هذا أو غيره من ترك الأوامر تحبسوه شهراً وكل يوم يُضرب أربعين سوطاً كفارة له وعبرة لغيره لينزجروا عما يورث الهلاك لهم وللأمة ، والسلام ” ..
و كتب في ذلك أيضا ً : ” وكذلك من يمسك امرأة بدون أن يأمنونه عليها ولا يحفظها ولا يوصلها إلى محل الأمانة المعد لها كأمين بيت المال ومن امرهم فلازم ان يحصل عليهم الزجر الكافي والتهديد الشافي . وما مثل هذا إلا أفعال الجبابرة الذين لا خِلاق لهم ، فيهتكون الحريم والأبكار .. وفي ذلك عذاب النار ، فلازم الاهتمام بهذا الأمر الذي أمرض قلبي وأنالني هماً والسلام “..
وفي نفس المعنى أيضاً كتب الامام المهدي في أعقاب تحرير الخرطوم للأمير محمد عبدالكريم وجيشه المحاصر لسنار مشيداً بقوات حمدان ابوعنجة لانضباطها وحسن مسلكها مع المدنيين :
” وجزى الله الحبيب حمدان ابوعنجة عنا وعن دينه خيراً فقد بلغنا عنه ما سرنا من الاستقامة ومنع الأصحاب من أخذ حقوق العباد واذيتهم ” .
وكان المهدي مستدركاً لما يصاحب حروب التحرير من فوضي يثيرها المندسون في صفوف الثوار واصحاب المصالح الأخرى الذين تتعارض مقاصدهم مع مقاصد الثورة الحقيقية ، فكتب من قبل ذلك إلى عامله عبدالله عوض الكريم أبوسن واصفاً هؤلاء ب ” بكلاب الدنيا الذين يتداخلون مع أنصارنا ” ..قبل أن يوجهه بحزم بردعهم قائلاً : “فلنفوض الأمر لله مع الإجتهاد في ازالة كل سوء “.