هل استباحت قوات الثورة المهدية مدينة الخرطوم في يناير 1885 ؟
استباحة الخرطوم في أدبيات الدعاية الحربية البريطاني
محمد المصطفي موسي
ظل مصرع تشارلز غوردون على عتبات قصره في الخرطوم مشهداً مأساوياً صعب على بريطانيا تناسيه . و جنح معاصروه من البريطانيين لربط مصير المدينة بمقتله المأساوي . من ذلك أن الدعاية الحربية البريطانية التي سبقت حملة اعادة احتلال السودان في ١٨٩٨ اجتهدت لتشويه صورة الثورة المهدية في الذهن الشعبي البريطاني تهيئة ًله لتقبل الغزو بقيادة كتشنر .و أشرف قلم المخابرات بقيادة الضابط الاستخباراتي ونجت على عملية طبع و اصدار كتب عدة و منها السيف و النار لسلاطين ، مؤلفات ابراهيم فوزي و الأب أوهرواليدر و غيرها من كتب الحملة الدعائية . ولعل من
عبث الأقدار بهذه البلاد أن يكتب تاريخها رجل أقاله غردون من منصبه الاداري في الاستوائية لإتجاره في الرقيق و ولوغه في الفساد و الرشى كإبراهيم فوزي . فلا مندوحة إذن في هذا السياق من تناول هذه المؤلفات بحذر و يقظة حين نستند عليها في نقل و قائع ما حدث بعد تحرير الخرطوم .و في ذلك كتب المؤرخ الوطني البروفيسور يوسف فضل مسمياً الأشياء بأسمائها :
” الكتابات التاريخية البريطانية والمصرية المعاصرة عن الأعوام السبعة عشر والتي شهدت سيطرة المهدويين على مقاليد الأمور في السودان ، كُتب أغلبها بواسطة أناس تم توظيفهم بواسطة الحكومة المصرية أو ناشطين في الحملة الدعائية التي مهدت للحملة العسكرية ضد السودان وبالتالي جاءت تلك الكتابات متسمة بالجنوح نحو الإثارة وفي بعض الأحيان أحاطتها النيات الجائرة المبيتة” . و قال فضل : “ومن الممكن العثور على أراء مشابهة لما سوقناه عند الكولونيل ب. أر . ونجت في كتابه ( المهدية في السودان الإنجليزي المصري) و كذلك عند ابراهيم فوزي صاحب كتاب ( السودان بين يدي غردون و كتشنر )” .
وإستكمالاً لمنهجية ” نقد النقد” التي وجهها بعض المؤرخين البريطانيين لمؤلفات المخابرات البريطانية فيما قبل عملية إعادة إحتلال السودان ، إرتسم المؤرخ الإنجليزي فيرغس نيكول بكلماته مساراً متناصاً مع مجهودات من سبقوه في ذات السياق المار ذكره . و من ذلك قوله عن مؤلفات تلك الحملة الدعائية :
” هي مؤلفات تم فيها تلوين الحقائق بدرجة عالية وقد إشتملت على تفاصيل ممتلئة بالمرارات الشخصية ..وفي أحايين كثيرة إمتلأت صفحاتها بإزدراء متعمد لكل ما وقف وثار من أجله المهدي ومن معه من الرجال الذين ناصروه . ويمكن القول بأن الميجور أف . أر . ونجت مسئول المخابرات العسكرية البريطانية في القاهرة هو المؤلف الحقيقي لتاريخ تلك الفترة ، فقد ألف بنفسه كتاب (السيف والنار) لسلاطين و كذلك ( عشر سنوات في أسر المهدي) لأوهرواليدر . فعلى الرغم من توفر بعض المعلومات المنسوبة لشهود عيان كانوا حضوراً في لحظات مفتاحية من مراحل الثورة إلا أن قيمة هذه المؤلفات كمصادر مستقلة لتاريخ المهدية قد تراجعت كثيراً بفعل تدخل ونجت في كتابة تفاصيلها” . و في السياق ذاته ، يمكن نسبة مؤرخين مهمين لتيار نقد النقد الذي حذر من الاعتماد على كتب “البروباغاندا” في كتابة التاريخ المهدوي و من ذلك مؤرخين من من العيار الثقيل على نحو هولت و نورمان دانيال .
صفوة القول ، أن استدعاء التاريخ خارج سياقاته الزمانية يحتاج للكثير من التقصي و التروي سعياً نحو فضيلة الاعتبار التي نترجاها منه. و يبقى استصحاب الحكمة في التمحيص بخباياه جسراً مهماً نحو الحاضر و المستقبل طالما ظل الباعث على ذلك ذهناً منفتحاً متحرراً من محاذير الفتنة العرقية و اعادة انتاج ذات الأزمات التي أقعدت ببلادنا و أوردتها موارد الفرقة و الشتات .
اللهم أحفظ بلادنا و سلمها و بلغها مأمنك الذي ليس من بعده مأمن ..
————
المصادر :
-صحيفة Irishman ، ١٤ فبراير ١٨٨٥ ، ارشيف الصحافة البريطانية ).
-انجلز : مجلة العصور الحديثة ، المجلد 1 ، العدد 22 ، 1894، ، أنظر أيضاً الاستاذ تاج السر عثمان: اسباب وطبيعة الثورة المهدية في السودان(1881- 1885) ، الحوار المتمدن ، ٢٠٠٨).
– الإمام المهدي – محمد أحمد بن عبدالله ١٨٤٤-١٨٨٥ ، للدكتور محمد سعيد القدال ، الناشر : دار الجيل ، بيروت- لبنان ، ١٩٩٢.
-أبوسليم : تاريخ الخرطوم ، الناشر : دار الجيل ، بيروت- لبنان،١٩٧٩.
-فيثرستون: الوقفة الاخيرة للجنرال غردون، Osprey Publishing ،أوكسفورد ، المملكة المتحدة ١٩٩٣).
-الراية الخضراء ، لأرثر كونان دويل ، نسخة إلكترونية ، الناشر Andrews Uk Limited ، بريطانيا ، ٢٠١٢ .
-مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون.. لفيرغس نكول ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة ٢٠٠٤.
-الاثار الكاملة للامام المهدي لابوسليم ، المجلد الخامس، دار جامعة الخرطوم للنشر ١٩٩٢ ) .
-عبدالرحمن الغالي : المهدية ، قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش ، الناشر : دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع ، الخرطوم ، ٢٠١٦.
-محمد المصطفى موسى : الأصداء العالمية للثورة المهدية ، الناشر : دار المصورات للنشر ، الخرطوم ٢٠٢٠ .