في يوم الجمعة بتاريخ 19 مايو الجاري تعرضت لحالة اعتقال من قبل قوات الدعم السريع في ارتكاز لها في تقاطع رئيس في حيّنا.
في ذلك اليوم خرجت من منزلنا ما بين العاشرة والعاشرة والنصف صباحاً متوجهاً إلى المخبز، عند دخولي إلى الشارع الرئيس حيث وقعت عيني على أحد افراد القوة وهو موجه سلاحه إما إلى طبلة لمحل موبايلات أو إلى قفل باب منزل جوار المحل، عندما لمحني ذلك الفرد تردد في مواصله فعله ثم ما لبث أن ناداني ليقوم بسؤالي عن أصحاب المنزل وكان ردي له أن الباب هو مدخل لجزء من المنزل يستخدمه مؤجرو محل بقالة في ذات المبنى الذي به محل الموبايلات كمخزن وأن لا علم لي عن أصحاب المنزل.
بعدها فوراً تغيرت لغة ذلك الفرد ليقول أنني بحسب تعبيره ( تقاطعت بينهم أكثر من مرة وبأكثر من اتجاه ) لأجد نفسي متهماً بإني منتمي للاستخبارات العسكرية، ثم بدأ يأمرني بالجلوس مستخدماً في ذلك سلاحه باطلاق أعيرة نارية من سلاحه بالقرب من أرجلي ومنادياً لبقية زملائه بالحضور لأسر ” زول الاستخبارات العسكرية ” وبالفعل اتو مجموعة منهم من هو مسلح ومنهم من يحمل إما سوطاً او خرطوش مقوى لتبدأ موجة هستيرية من الضرب في سبيل اقراري بكوني عسكرياً.
الغنيمة الأكبر لهم كانت هاتفي المحلول والذي باستعراض محتوياته سواءاً رسائل تطبيق الواتساب أو ما يحويه من صور ومقاطع فيديو لتأكيد التهمة، حيث أن أي رسالة في أي مجموعة تحمل موقفاً ضد الدعم السريع او انحيازاً للقوات المسلحة كانت بمثابة تعزيز لتهمة تبعيني للاستخبارات العسكرية مضافاً انتماءاً للمؤتمر الوطني، وبائت كل محاولات اقناعهم ( بأن هناك مواقف متباينة يسجلها اعضاء القروبات وان هناك مقاطع فيديو تحوي سيطرة للدعم السريع لأحد المواقع العسكرية وأن هذه المحتويات تعبر عن أصحابها وليس عن شخصي بالضرورة ) بالفشل الذريع.
استمر الوضع إلى حين وصول فرد استخبارات للدعم تم استدعائه للموقع والذي واصل تصفح الهاتف باعتباره دليل الأدانة المادية لشبهة تجوالي حول موقع الارتكاز، فرد الاستخبارات هذا تعرف إلى شخصي حيث سألني ” هل انت نورالدين بتاع التلفزيون الفي المؤتمر السوداني ” ولما كانت اجابتي نعم كان جزائي التعنيف بسبب ما عبر عنه بخذلان الحرية والتغيير للدعم السريع وعدم فزعهم معهم في هذه الحرابة باعتبار أنهم يقاتلون من أجل الديمقراطية والاتفاق الاطاري في مواجهة الكيزان، وكان وبالي الأكثر أني ظننت أن اخباره بمسألة استقالتي من حزب المؤتمر السوداني ربما تكون طوق نجاة من غضبته ليواجهني بمزيد من التعنيف بأنني ضمن مجموعة مقدرة من الحزب استقالت منه حيث قال أنني ضمن الكم وتلاتين ” بحسب احصائياته هو ” الذين استقالوا لأنهم منحازون إلى الجيش .
في النهاية قرر فرد الاستخبارات بعد اجرائه لمكالمات هاتفية نقلي إلى المعتقل خصوصاً أنه في وجد رسائل خطها شخصي أصف فيها الدعم السريع بالمليشيا و الجنجويد، طبعاً مع اتهامات بما فهمته منه بأنه استعلاء ثقافي وأنهم يواجهون بنظرة دونية لأنهم من غرب البلاد وأن هذا التحرك العسكري ضد الكيزان لو قام به ناس الشرق ” تعبير الشرق استخدمه هو ” لكان قد وجد تأييداً من قبل ناس الخرطوم وانو البلد ما بتمش لقدام لو ما سبتوا العنصرية .
هناك في مركز الاعتقال والذي هو عبارة عن مبنى مدني يتكون من عدة طوابق تتعدى الخمسة طوابق على أقل تقدير تم استقبالي بدون ” حفل استقبال ” يحدث لكل وافد جديد، حيث سبق وصولي معلومة نشاطي السياسي على ما يبدو واكتفوا فقط بمد الخراطيش المقوية بما يشابه المكرفون واجراء لقاءات تهكمية ويقال لي انت في قناة الجزيرة او الحدث وأعطنا رأيك في الحرب .. قد أكون اجريت خمسة او ستة لقاءات، انتهى الأمر بتفتيشي وطلب خلع حزام االنطال وتدوين اسمي والاتيان بظرف وضع فيه هاتفي ومبلغ 2000 جنيه باعتبارها امانات لديهم وكتب فيه اسمي ثم امري بالذهاب إلى السلم والنزول إلى البدروم.
خلال مسيرة مقدرة تعرضت فيها لعدد من الاعتقالات وزرت فيها موقف شندي ” التلاجات ” وكوبر ودبك ومكاتب جهاز الامن في العمارات شارع 59 .. لم أجد مكاناً بهذا السوء والفظاعة كما المكان الذي دخلت إليه الآن.
بدروم المبنى الذي يستخدم كمعتقل ( لا فكرة لدي عن اغراض استخدام بقية طوابق المبنى ) ربما كان هناك 200 أو 300 معتقل او يزيد لست أدري، لكن ما انا أكيد منه أنه ليس هناك موطيء قدم لتستطيع التحرك فيه ناهيك عن حجز مساحة لجلوسك او استلقائك، المكان مظلم .. لا توجد كهرباء .. لا توجد إضائة .. لا يوجد متنفس لدخول الهواء .. درجة عالية من الرطوبة وكتمة النفس وحدثت عدة حالات اغماء نتيجة لكتمة النفس ودرجة الحرارة العالية.
بعد فراغي من استقبال سابقيّ من المعتقلين ( رأيت 4 منهم مكلبشي الأرجل ولم يتسنى معرفة الأسباب ) الذين كنت لهم مصدر مستجدات الأخبار، وجدت ان بينهم عدداً من منتسبي القوات النظامية من الجيش والشرطة، لكن الغالب الاعم والغالبية الساحقة كانوا من المدنيين البسطاء الذين أوقع بهم حظ عاثر في قبضة الدعم السريع كما حظي الذي أتى بي هنا لمزاملتهم، منهم من تم انزاله من بص سفري لشبهة الانتماء العسكري .. منهم من كان راجلاً في الشارع.. منهم من كان في مقر عمله لحظة بدء الحرب في مناطق السوق العربي، منهم امام مسجد خرج ليؤذن الفجر، منهم خدام كنائس في مناطق شمال و وسط الخرطوم، منهم مغتربون جائوا لقضاء رمضان واضطروا للذهاب إلى بري حيث وثائقهم ومستنداهم الرسمية، منهم جنسيات اجنبية من دول جنوب السودان ومصر، المهم تتعدد اسباب وظروف الاعتقال ومدة الاعتقال من اسبوع ولما يزيد عن ثلاثين يوماً دون أن تتاح لهم فرص التواصل مع ذويهم، وحينها حمدت الله ان اعتقلت من داخل الحي حيث اشرت إليهم بسؤال أصحاب صيدلية وبعض المارة لحظة الاعتقال ممن تربطني بهم صلات القربى او الجوار عن هل لي علاقة بتنظيم المؤتمر الوطني، وبهذا فقد كنت ضمنت أني معلومة اعتقالي ستصل إلى الأسرة.
عندما اقترب المغرب اكتشفت عدة اشياء:
- لو كانت هناك لديك رغبة لقضاء الحاجة فعليك قضائها قبل حلول الليل لأن الحركة حينها مستحيلة بسبب الظلام الدامس والتكدس البشري.
- مكان قضاء الحاجة هو عبارة عن أربع جرادل موجودة مع مزلقان مدخل البدروم، ولو كان الأمر يقتضي ( اكرمكم الله ) التبرز ما عليك إلا أن تدلي بنطالك والشافك شافك والغض طرفه عنك غض طرفه عنك، وبلا ماء .. طبعاً لا احتاج إلى وصف الرائحة الكريهة والممتدة إلى سائر مكان الاعتقال.
- الماء بسيط للغاية ويستعمل فقط للشرب، وربما لا يتعدى نصيبك في اليوم ثلاث إلى اربع اكواب، وهذا ما جعل المعتقلين يلجأون للتيمم بضرب ومسح أكفهم إلى الحوائط حين رغبتهم في الوضوء.
- صلاة المغرب تقام قبل موعدها استباقاً للظلام الدامس ويصلى معاها العشاء جمعاً في فتوى استنبطها المعتقلون لأنفسهم.
في اليوم التالي كانت وجبة الافطار، والتي لا أدري بطبيعة الحال موعدها، لكن كانت عبارة عن صواني يؤم كل واحدة منها عشرة .. بها عصيدة مع العدس، ولم استطع تجاوز اللقمة الرابعة لأني وجدت أن العصيدة نفسها لم يتم اعدادها جيداً حيث كان مكنونها دقيقاً أبيض كأنما لم تسط وتحضر بشكل جيد.
بعد الظهر، تم النداء على اسمي وعندما ذهبت لفرد الدعم السريع قالي هل انت نورالدين السياسي .. رددت بالايجاب .. ولما سألته عن السبب قال ” ماف حاجة ” .
ربما بعد ساعة او ساعتين تم تكرار النداء وطلب مني حينها الصعود من البدروم للطابق الأرضي ثم الجلوس في مدخل المبنى، بعدها توالى استدعاء معتقلين آخرين يترواح عددهم بين 20 إلى 25 معتقل، تم السؤال بعدها عن هل لديكم امانات هنا لاستوحي بعدها أنها اجراءات اطلاق سراح .. وبالفعل تم تفريغ الظروف وسؤال أي معتقل عن هل هذه ممتلكاته لحظة الاعتقال أم لا .. وترافق مع ذلك تبدل في لهجة التعامل من قبل افراد القوة القائمة على أمر المعتقل على شاكلة التلطف والتبسم والمزاح والسؤال عن الشوق للأهل والتظارف بالسؤال عن الرغبة في المكوث معهم وعدم المغادرة.
بعد الانتهاء من تسليم المتعلقات تم اقتيادنا إلى خارج المبنى حيث خاطبنا من يبدو انه ضابط رفيع ( استنتج ذلك بحسب واقع التعامل معه حيث لا علامات على كتفه ) .. ليبدأ بتوجيه أسئلة إلى المعتقلين عن مكان الاعتقال وتاريخه وسببه، وكانت لديه تقديراته في ارجاع اثنين إلى داخل المعتقل وفهمت أن سبب ارجاع احدهما أنه قبض عليه في شارع المطار وهو يقود دفار وأن هناك أمر بمنع تحرك السيارات الكبيرة.
عندما وصلني الدور وقبل ان اكمل اسمي الأول قاطعني بزول السنابل، وطلب مني بعد الخروج ان اتيحت لي فرصة التحدث إلى وسائل الاعلام ان أقول كلام موزون وان اتجنب الانحيازات وان الحرب مفروضة عليهم وأنه في النهاية عندما تأتي الدولة المدنية الديمقراطية سيذهبون إلى الثكنات وأننا سنذهب للحكم ونكون وزراء.
في ختام الجلسة .. طلب هذا الضابط من المفرج عنهم العفو والعافية وان يتجاوزا أي انتهاكات غير مقصودة جرت لهم، وبرر لهم ان الزمان حرب .. وان الواحد منهم لو كان يتواجد في ابو حمامة او في شارع الغابة سيكون من الطبيعي ان تشك فيها قوة الجيش او استخباراته المرابطة هناك وكانوا سيتعرضون لذات ما تعرضوا له هنا .. وختم حديثه بالتبشير عن قرب الوصول لهدنة وأنه سيكون هناك ممرات انسانية وشوارع تمشوا بيها ولغاية الوقت داك ماف زول يتحاوم الا لضرورة ..
انتهى الأمر بتقسيم المفرج عنهم إلى مجموعات بحسب مناطق السكن وقربها من بعضها البعض، ومن ثم تقسيمهم إلى عربات كان نصيب مجموعتي عربة او شريحة مظللة أقلتنا إلى شارع الستين .
هذا ملخص لاعتقال زاد عن الثلاثين ساعة، حاولت ان الخصه دون أي حمولات لأكون أقرب في نقل الحقيقة كما هي.
نور الدين صلاح الدين
28 مايو 2023