على الرغم من أن الصراع العسكري السوداني لم يضع أوزاره بعد، وعلى الرغم من أن الحسم العسكري على الأرض في العاصمة السودانية، لا يبدو واضحا، ولكن ثمة مؤشرات على أن محمد حمدان دقلو، وقوات الدعم السريع ربما تكون قد خسرت معركتها الحاسمة للوصول للسلطة في السودان منفردة، وقد لا تضمن هذه المؤشرات ربما وجود حميدتي على مائدة مفاوضات منتظرة، يسعي لها الجميع على المستويين الخارجي والداخلي؛ لحل المشكل السوداني.
هذه الفرضية التي نطرحها نستند فيها إلى عدد من المؤشرات التي تراكمت خلال الفترة الأخيرة، وأيضا عدد من المعطيات المستقرة التي سبقت الاشتباكات العسكرية، ورافقتها أيضا طوال الفترة التي تجاوزت شهرا من الزمان.
أحدث المؤشرات هي قرار الفريق عبد الفتاح البرهان، بالانسحاب من منصة جدة وهي المنوط بها التواصل بشأن عملية وقف إطلاق النار، وكان من المأمول أن تكون المنصة التي تقود إلى هندسة عملية تفاوضية بين الجنرالين المتصارعين.
وفيما يتعلق بالمؤشرات الإقليمية التي تؤكد أن حميدتي قد خسر سياسيا على المستوى الإقليمي، هو قرار القمة العربية الأخيرة المنعقدة في جدة، والذي نص على “الرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة”
وهو نص يعني أن الداعمين الإقليميين لحميدتي، لم يستطيعوا تمرير لا الاعتراف به ولا الدفاع عن وجوده كشريك في المعادلة الداخلية السودانية، حيث يبدو أن النظام العربي في تحركه الراهن تحت مظلة الملامح الأولية للنظام الدولي الجديد، قد وضع أطرا جديدة يسعى أن تكون فاعلة لإنهاء مرحلة العقد المنصرم، والذي تميز بعدم الاستقرار السياسي، من نشوب للصراعات البينية المسلحة في عدد غير قليل من الدول العربية؛ نتيجة تدخلات إقليمية ودولية. ويبدو لنا أن أهم الأطر التي يسعى النظام العربي حاليا للعمل تحت مظلتها هي الاستقلال النسبي عن السياسيات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والتأكيد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مع رفع قيمة، ودور الدولة الوطنية في تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب داخليا وخارجيا.
هذه الاتجاهات الجديدة تقودها الرياض بتوافق مع القاهرة في هذه المرحلة، التي ربما تنجح فيها العاصمتان بتأسيس نوع من الاستقرار السياسي العربي في المرحلة المقبلة، بات لازما بعد أن ثبت أن فوضى دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية، قد شكلت تهديدا وجوديا لكثير من الدول، وكان ذلك معطى من معطيات عدم الاستقرار الإقليمي، وتهديد الأمن الإقليمي والدولي معا وخسران مصالح اقتصادية بالجملة لجميع الأطراف.
قرار القمة العربية، سيكون له انعكاس مباشر على الأوضاع السودانية الراهنة، وطبيعة أوزان الأطراف المتشابكة عسكريا، وهو ربما ما يفسر بيان قوات الدعم السريع؛ بشأن قرار قمة جدة المشار له سالفا، والذي لم يفصح عن رفضه للقرار ولكنه اكتفي بالقول إن المعلومات التي قدمها الوفد الحكومي السوداني، بشأن مسارات الصراع العسكري على الأرض هي غير صحيحة.
بيان قوات الدعم السريع، يبدو لنا أنه قد تجاهل أمرين: الأول، أن النظم الرسمية العربية في مجموعها بطبيعة تكوينها لن تعطيه شرعية مستدامة، وأن شرعيته التي تأسست على الصراعين الليبي واليمني هي مؤقتة بطبيعتها، كما أنها تآكلت بشكل كبير بسبب الترتيبات العربية والدولية الراهنة في كل من ليبيا واليمن؛ لتأسيس شرعيات سياسية جديدة.
الأمر الثاني، أن المعلومات المتوافرة بشأن ممارسات قوات الدعم السريع ضد المدنيين غير مؤسسة فقط على المعلومات، التي قدمها الجيش السوداني لأعمال القمة العربية، والتي هي بالضرورة تدين حميدتي وقواته، ولكنها أيضا مؤسسة على المعلومات المستقلة التي وردت من مواطنين عاديين على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وجدت طريقها الي المحطات الفضائية، خصوصا من هؤلاء القادمين إلى القاهرة، والتي تم قطع الطريق عليهم من جانب قطع عسكرية غير مملوكة لعناصر النظام القديم، وهي معلومات فرقت بوضوح بحكم الخبرة المحلية بين قوات حميدتي، وبين هؤلاء الذين يدعون انتسابهم للدعم السريع بهدف تشويهه ربما، كما أنه من الضروري ملاحظة أن تاريخ الدعم السريع، ومؤسسيه القبليين من الجنجويد وطبيعة ممارستهم التاريخية في إقليم دارفور هي حجر عثرة في تبييض وجه قوات الدعم السريع في المجال العربي العام.
وقد يكون من الملفت هنا تجاوز القمة العربية، والأطراف الغربية أيضا لمسألة استخدام سلاح الطيران من جانب الجيش السوداني في أماكن وجود المدنيين بالعاصمة الخرطوم، وهو ما نتج عنه إصابات لمواقع ومؤسسات مدنية، ربما عن طريق الخطأ، وربما بسبب احتماء الدعم السريع في هذه المنشآت، ولكن يبدو أن هذا التجاوز مرتبط بعدد من المعطيات القائمة، بشأن طرفي الصراع السوداني.
أول هذه المعطيات، أن هناك مشروعا إقليميا لمحمد حمدان دقلو ممتد في دول الساحل الإفريقي، وهو مشروع قد فرض عليه علاقة أو تحالفا من نوع ما مع شركة فاجنر الروسية، من هنا بات حميدتي وقواته غير مرحب بهما على الصعيد الأمريكي، وذلك تحت مظلة الحرب الروسية الأوكرانية وطبيعة الاستقطابات المرتبطة بها، كما أنه غير مرحب به فرنسيا على اعتبار أن أداء شركة فاجنر الأمنية الروسية على المستويين السياسي، والعسكري قد خلخل النفوذ الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، بل أنه قد أخرجها نهائيا من دول مثل بوركينا فاسو ومالي.
مشروع حميدتي معادٍ أيضا لتشاد ورئيسها محمد إدريس ديبي، الذي لديه أطروحة بشأن مسئولية حميدتي في دعم قوات المعارضة التشادية ضد أبيه، والتي نجحت في اغتياله قبل عامين تقريبا.
أما على المستوى المصري، فإنه رغم وجود نوع من أنواع التفاعلات المصرية مع حميدتي قبل، وبعد الاشتباكات المسلحة طبقا لوزنه في المعادلة الداخلية السودانية، وطبيعة تأثيره فيها بعد ثورة 2018، لكن المزاج المصري على المستوى الرسمي والشعبي لا يهضم تقليديا فكرة التعدد العسكري داخل أي دولة، ويرفض الطابع الميليشاوي على أسس غير قومية لأي فصائل مسلحة.
في هذا السياق، لم تتواصل القاهرة مع حميدتي بعد الاشتباكات إلا بمكالمة وحيدة من جانب وزير الخارجية المصرية سامح شكري، كما أن مصر قد تحركت في إطار سعيها؛ للتهدئة ووقف إطلاق النار في السودان، مع ألد أعداء حميدتي وهو إدريس ديبي، ولكن لاعتبارات لها طابع استراتيجي منها، أن تشاد كما مصر تملك حدودا مباشرة مع السودان، وأن كلا البلدين مصالحهما مهددة من حالة استمرار الصراع العسكري فيه، كما أن البلدين يعانيان من تداعيات الصراع، خصوصا في مسألة تدفق الفارين منه نحو كل من الحدود المصرية والتشادية بأعداد تفوق غيرهما من الدول.
نضوج المؤشرات والمعطيات الإقليمية والدولية، وربما أيضا مسار العمليات العسكرية على الأرض، قد مكن الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي، والقائد العام للقوات المسلحة السودانية من نزع أي صفة سياسية أو عسكرية لمحمد حمدان دقلو له أو قواته، وذلك بإعادة تشكيل المجلس السيادي السوداني دون حميدتي، الذي كان يشغل فيه نائب الرئيس، وكذلك تم بلورة تشكيل جديد لقيادة القوات المسلحة السودانية، وذلك تحت مظلة وصم ممتد منذ بداية الاشتباكات لحميدتي، وقواته بصفة التمرد على الشرعية.
وبطبيعة الحال لم يكن هذا القرار مفاجئا للخبراء والمتابعين، ذلك أن الجيش السوداني استطاع أن يفك على مستوى كبير العلاقة العضوية على الصعيد الميداني بينه وبين قوات الدعم السريع، وهي العلاقة التي تسببت في احتقانات مضادة للبرهان داخل صفوف القوات المسلحة، وذلك بإلغائه المادة 5 من قانون تأسيس قوات الدعم السريع، التي كانت تجعل تبعيته للجيش فضلا عن تمكينه لقوات حميدتي باعتباره نائبا له، من منشآت عسكرية تابعة للقوات المسلحة، وتكليفه بمهام للدولة هي منوطة بطبيعتها للجيش السوداني ومنها، حماية الحدود على سبيل المثال لا الحصر.
كما لجأ البرهان، وآلياته الإعلامية إلى فضح ممارسات قوات الدعم السريع على الأرض، وهي الممارسات التي عززت شعبية الجيش السوداني رغم محاولة الدعم السريع تبرئة ساحته من الاتهامات، وبلورة مقاربة تتهم فيها ميليشات الإخوان المسلمين، والنظام السوداني السابق بالمسئولية عن الممارسات الهمجية ضد المدنيين.
في هذه السياق، لجأ أيضا البرهان ومنذ الأسبوع الأول من الاشتباكات العسكرية التي بدأت في 15 إبريل الماضي، إلى محاولة الفصل بين قيادة قوات الدعم السريع وجسمها، وذلك بفتح الطريق أمام عناصر الدعم السريع الي الاندماج في القوات المسلحة، إذا ما ألقت بسلاحها وهو أمر أقدمت بالفعل عليه بعض العناصر.
وأخيرا، فإن فرضية ضعف حميدتي يعززها مدى قدرة الجيش على الاستيلاء المستقِر على منشآت عسكرية، وغيرها من المنشآت التي من شأنها أن تضعف الموقف العسكري لحميدتي، وتجعل الرجل يصل الي مائدة تفاوض، إما مهزوم أو محروم من غالبية قدراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، التي راكمها خلال ما يزيد عن عقدين تحت مظلة فوضى إقليمية سمحت له بمكانة وتأثير، لم يعد السياق الراهن يسمح بهما.