تشكل حالة الصراع السوداني وإمكانية توسعه الجغرافي على كامل التراب الوطني بدوافع سياسية وعسكرية؛ فضلا عن الأبعاد القبلية والجهوية، مهددًا كبيرًا للأمن القومي المصري بمعناه الشامل، ذلك أن حالة السودان كدولة ومدى استقراره له علاقة مباشرة بعدد من المعطيات الاستراتيجية المؤثرة علي المستويين الإقليمي والمحلي المصري، ويساهم بشكل فعال في مستوى قوة القدرات الإقليمية المصرية، وطبيعة أوزانها المؤثرة في السياقين الإقليمي والدولي .
وربما يكون المستوي الأول من الخسائر الاستراتيجية المصرية، هو نجاح الاستراتيجيات الإسرائيلية التاريخية ضد مصر ، والتي تمثلت في النجاح في شد أطراف مصر تجاه جنوبها في ملفي السودان وسد النهضة، وهي الاستراتيجية التي وضعها بن جوريون عام 1955.
وهذه الاستراتيجية مؤسسة علي إضعاف دول الطوق لإسرائيل، وكذلك دول التخوم للعالم العربي عبر اختلاق الأزمات الداخلية أو الأزمات الإقليمية، بما يشغل المحيط الجغرافي لإسرائيل بمشاكله الداخلية، أو التحديات التي يخلقها عدم الاستقرار الإقليمي عن مواجهة إسرائيل ككيان مستعمر.
وتأسيسا علي ذلك، فإن إسرائيل طورت استراتيجية شد الأطراف عام 1995؛ لتكون قضم الأطراف، وكان أول تطبيق عملي لذلك هو حالة جنوب السودان، بينما تكون الخطوة المتوقعة في غضون العشر سنوات القادمة هي دارفور، حيث من المنتظر أن تكون دارفور نقطة ارتكاز لقوات الدعم السريع، أو فلولها في حالة حسم الصراع العسكري في الخرطوم لصالح القوات المسلحة السودانية، وهو ما يترتب عليه أن تتحول دارفور كما كانت جنوب السودان نقطة تمرد علي المركز تحت عناوين مختلفة، سوف يتم استثمارها إسرائيليا، ودوليا للوصول لحالة قضم قطعة أخرى من السودان، بما يسهل الوصول إلى موارده الهائلة بأقل تكاليف ممكنة، حيث تملك السودان موردين هامين للاقتصاد العالمي، فهي ثالث منتج للذهب علي مستوي القارة الإفريقية، وأهم وأول منتج للصمغ العربي على مستوى العالم، فضلا عن موارد زراعية وتعدينية أخري متنوعة.
وتمهد إسرائيل حاليا لخطوة انفصال دارفور عبر علاقة مباشر بأحد أهم القادة الدارفوريين، وأكثرهم ثقلا على الأرض وهو عبد الواحد نور رئيس حركة تحرير السودان، المستند علي قبيلة الفور، والذي أصبح له موارد ذاتية عبر الحصول على مورد الذهب في الأراضي التي تسيطر عليها قواته.
وفي هذا السياق، تملك إسرائيل علاقات مميزة بمحمد إدريس ديبي رئيس تشاد، بما يجعلها قريبة من التفاعلات في دارفور، وذلك فضلا عن استخدام إسرائيل لقوتها الناعمة في إطار العلاقات الثقافية، التي نسجتها خلال العقدين الماضيين مع أهالي دارفور في المهاجر، حيث كان في الهولكوست مساحة لدارفور قبل عقد، وتنشط منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية؛ لتسجيل ما تقول إنه تاريخ شفاهي للقبائل الدارفورية، وهو ذات ما تفعله مع قبائل جنوب السودان.
علي مستوي مواز، فإن خروج السودان من معادلة سد النهضة يفقد مصر سندا كانت قد اعتمدت عليه خلال الفترة الماضية، فيما يتعلق بتنوع أوراق ضغطها على إثيوبيا سواء عبر المناورات الجوية والبحرية مع السودان، أو العلاقات التدريبية بين الجيشين المصري والسوداني في كافة الأفرع العسكرية، وقد انعكس الصراع السوداني مباشرة علي موقف إثيوبيا من عقد مفاوضات بشأن سد النهضة قبيل الملء الرابع المتوقع لبحيرة السد في يوليو القادم، حيث أعلنت الخارجية الإثيوبية أنه لا سبيل لمفاوضات دون استعادة السودان كشريك فيها، وهي الحالة التي لم تعد ممكنة بسبب الصراع العسكري السوداني.
ويشكل عدم استقرار السودان ضغوطا عملياتية علي القوات المسلحة المصرية علي الصعيدين البري والبحري، فهي سوف تفقد شريكا في حماية الحدود المشتركة؛ بسبب انشغالاته الداخلية، كما يؤدي عدم الاستقرار السوداني في مزيد من السيولة الأمنية لقطاع واسع من منطقة وسط إفريقيا، ويساهم في زيادة الأنشطة الإرهابية، وهو المؤثر علي الحدود المصرية من الجهة الغربية، وكلها معطيات تضيف مزيدًا من الضغوط على الجيش المصري.
في السياق الإقليمي يخلق الصراع السوداني فرص للتدخل الإقليمي، والدولي من حيث الإقدام علي دعم تشكيلات ميليشاوية مسلحة قد تكون لفرق الإسلام السياسي، أو تشكيلات جهوية أو قبلية، وهو ما يمكن أن يحول الاشتباك الراهن الي حرب أهلية شاملة في السودان ،كما يساهم في تصاعد مستوي التحديات الأمنية علي مستوى غير مسبوق لمصر، وربما هذا ما يفسر إصرار القاهرة على دخول الشباب السودانيين ما بين 16 و50 عامًا بتأشيرات نظامية، ولكن هذا الإجراء لاينفي فرص نجاح تهريب البشر عبر الحدود المشتركة، خصوصا علي الجانب الشرقي الذي تنتشر فيه سلاسل البحر الأحمر.
وبطبيعة الحال عدم استقرار السودان، أو تقسيمه يفقد القوة الكامنة للبلدين علي الصعيدين الاقتصادي، والتنموي عوامل القدرة علي تطوير كل بلد علي حدة، أو تطورهما معا ،ذلك أن المشروعات المصرية لمد خط سكة حديد أو طرق برية تربطها بكل من شرق إفريقيا، وجنوب إفريقيا أصبحت مهددة، كما أن التبادل التجاري البري بين البلدين لابد وأن يشهد نكسة مع عدم الاستقرار السوداني، ذلك ناهيك عن الفرص المهدورة للاستزراع والاستثمار في الأمن الغذائي، وهو أمر كان مأمولا على صعيد المخططات الإفريقية الشاملة، خصوصا تحت مظلة الحرب الروسية الأوكرانية.
أما علي مستوى الضغوط الاقتصادية، فإن النزوح السكاني السوداني الهائل نحو مصر مهدد آخر لها، ويضعها في خيارات حرجة فهي لا تستطيع إلا غوث الفارين من نيران الحرب لأسباب إنسانية، ولطبيعة ارتباط شعبي وادي النيل بعضهما ببعض على المستوى الوجداني، وفي نفس الوقت فإن ذلك يضع علي كاهلها ضغوطا اقتصادية هائلة، ذلك أن الدولة المصرية مطالبة بأن توفر الأمن الغذائي للسكان على أراضيها، وهو أمر يضع ضغوطا إضافية علي الاحتياطي النقدي المصري في ضوء تراجع هذا الاحتياطي، وشح العملات الأجنبية في وقت يعاني فيه الاقتصاد من ضرورة تسديد أقساط ديون كبيرة حتي عام 2025.
وربما تكون الجوانب المسكوت عنها في هذا النزوح السكاني، هي حالة الضغوط التي يمثلها علي فرص العمل للمصريين؛ خصوصا في القطاعات غير الرسمية، والتي تعتمد علي عمالة موسمية في مجالات تشغيل المطاعم والمحلات التجارية، وذلك علي سبيل المثال لا الحصر، حيث يفضل أصحاب الأعمال الصغار ومتوسطي الملاءة الاقتصادية السودانيين عن المصريين؛ بسبب سلوكياتهم الأخلاقية الجيدة علي صعيدي الأمانة والوفاء.
وفي سياق مواز، ولكنه سلبي تشكل الأنشطة الاقتصادية الصغيرة للسودانيين في الأسواق، خصوصا في أسوان تحديا لأصحاب المحلات، وهو ما خلق احتكاكات بين الطرفين لم تكن دائما محمودة العواقب، كما أن ادعاء الجنسية السودانية هو منتشر بين سكان بعض دول غرب إفريقيا الذين ينسلون مع السودانيين إلى مصر، وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي المصري الذي لم يواجه ضغوطا بهذا المستوى من قبل؛ خصوصا في نقاطه الحدودية .
فيما يتعلق بالجوانب الإيجابية علي الصعيد الاقتصادي المصري، فإن النزوح السكاني من الطبقة الوسطى السودانية سوف يساهم في تحريك سوق العقار المصري الذي يعاني من ركود في الفترة الأخيرة مع تراجع الطلب، بسبب ارتفاع الأسعار التي هي في متناول السودانيين نظرا لرخص أثمان العقارات المصرية مقارنة بالسودان من ناحية، وبسبب حيازة العملات الأجنبية من ناحية أخرى.
وعلي الرغم من أن رموز القوى السياسية السودانية بكافة تشكيلاتها، قد امتلكت في مصر على مدى العقود الأربعة الماضية ما يمكن تسميته بالملاذات الآمنة من التقلبات السياسية السودانية، فإن اندفاع المزيد من ممثلي الطبقى الوسطى بجميع شرائحها نحو مصر، سوف يخلق فرصا ربما في استثمارات متوسطة الحجم في قطاعات مختلفة.
إجمالا، فإن عدم الاستقرار في السودان هو مهدد كبير للقوة المصرية الشاملة، من حيث تصاعد مستوى التهديدات المائية والأمنية، والاقتصادية دون إنكار أن هناك بعض الفوائد المحدودة لتنشيط قطاع العقار المصري.