تروي الذاكرة الشعبية في السودان أحداث وقعت في الماضي بمختلف المناطق كانوا يجمعون في تسميتها بسنين الخراب. فبعض الناس تتحدث عن ” الكسرة ” من ام درمان في اعقاب موقعة كرري ومآسيها في الثالث من نوفمبر 1898م. ثم موقعة أم دبيكرات. كذلك حادثة اغتيال الدفتردار في شندي ، .بل أحداث كثيرة بمواقع أخرى وفي تواريخ سابقة. فحادثة أغتيال المأمور ابو رفاس واربعين من جنوده في تلودي عاصمة مديرية جبال النوبة بجنوب كردفان في عام 1906م على يد عصبة من الفرسان في سباق الخيل الذي عرف باسم “الجمعية” كانت تؤرخ في الروايات الشعبية بسنة الخراب. بحدوثها قام الانجليز بعمل تعبئة عامة للجيش مع الاستعانة ببعض القبائل في استهداف قبيلة تلودي واستباحة ممتلكاتهم ، محفزة متفلتي ذلك الزمن ، بتملك غنائم هذه الحرب. رفضت نظارة الحوازمة عبدالعال في موقف نبيل المشاركة فيها لعلاقة الدم والروابط الاجتماعية ، فتم دمغهم بالتآمر ودعم الثوار المتمردين وعنُفهم المستعمر.
الحرب لعينة واحياناً تفرضها حتميات تاريخية واجتماعية ليزيق المتنافسين بأس بعض. الحرب هي الدم والموت والدموع والمآسي والشتات والفراق الى الابد ،عاشها في السنين الماضية أهل الجنوب / دار فور / جبال النوبة / النيل الازرق. وكم أحرقت مدن وقري وأختفت اسر بكاملها، ولكن أغلب الناس وفي مناطقهم الآمنه لم يعرفوا ويقدروا هولها ، فلم يتفاعلوا مع مصيبة ضحاياها إلا في نطاق ضيق. ومن باب المزايدة السياسية ،مما أوجد غبناً لدى أهل هذه المناطق. لكن ذاق و تعرف الكثيرون على هذه المأساة ، عندما انتقلت الحرب فجأة الى وسط الخرطوم العاصمة. الم تكن هناك اشارات سابقة نبهت الى مآلات ما قد يحدث اذا ما وقعت الحرب في الخرطوم، وحلول القطط مكان ساكني العمارات !!!. اليوم بدأنا نصرخ الله.. الله .. لقد كُسر باب بيتي وسرقت ثلاجتي وشاشاتي ، وبمرارة أكثر قال البعض لقد نام المتحاربون في غرفة نومي واستخدموا خصوصياتي . وللأسف لقد تجاوزت المأساة ذلك فطالت الارواح بشكل عشوائي تحت نيران القوة المميتة التي يوزعها الطيران بعشوائية.
الحرب لعينة وهي مرفوضة في الاساس ، والكل يحرص على تفاديها بكل السُبل. لكن للأسف مدمني السلطة والحكم يعتبرونها محطة اساسية لابد من المرور عبرها ، طالما تبقيهم أو ستعيدهم الى كرسي السلطة (مافي ارجل منا.. فلترق كل الدماء ) وكانت كل التقديرات خاطئة . الحرب هذه المرة كانت افرازاتها افظع وأكثر مرارة ، حيث إنفجر الحقد الاجتماعي المكبوت، وتمظهر في نهب البيوت واثاثها، ممتلكات الافراد ، نهب الشركات والمخازن وتدمير المرافق العامة. و الحقيقة المرة تقول، أن الكثير من مواطنينا في العاصمة قد تحولوا الى لصوص يمارسون اعمال النهب و جمع الغنائم ، بلا وازع ديني أو قيم فاضلة تردع النفس المريضة. وأعتقد أن ذهنية السوداني والقيادات بعد هذه الحرب ستكون غير تلك التي كانت قبل الحرب مما سيكون في صالح الحلول التي ظلت تطرح دون أن تجد أُذناً صاغية.
صحيح حدثت الفوضى والتفلت ، لكن هذا ليس حال كل أهل السودان، وخاصة في الارياف الذين ما زالوا يمثلون نموذجا مختلفاً يجسد التكافل والرحمة ورفض الخايب والشين من الافعال، حيث لا زالت المطمورة التي تكيل للخالات والعمات موجودة ومفتوحة. في رحلة خروج شقيقي واسرته من ام درمان غرباً الى النيل الابيض وكردفان ، تعطلت سيارتهم قرب قرية الدويم الغربية وكانوا في وضع حرج جداً ، مع هاجس التفلت والاعتداء على المسافرين على الطرقات. فاذا باهل المنطقة يقودهم كبيرهم شيخ العرب زاد الله فضله الوجيه / كنين فضل الله ابو عروض يستضيفونهم برحابة وكرم فياض ، وينحرون لهم الذبائح ويعرض عليهم الاقامة وتدبير السكن لكن أعتذر لهم شقيقي بانهم فقط عابرين. مما يبعث الطمأنينة ، بأن السودان وأهله ما يزالون بخير وإن عصفت بهم المحن والاحن صنيعة قلة من قيادات الوطن السياسية والعسكرية. وهذا مثال واحد من العديد من مواقف الشهامة التي تتكرر بارض الجزيرة الخضراء وطريق شريان الشمال حيث اهل السودان الاصفياء. ورواية أخرى تقول عند مدينة الدبيبات جنوب الابيض حدث موقف مشابة لأسرة انتهت بها الرحلة ليلا علي تخوم تلك المجاهل فاستقبلتها أسرة من الدبيبات، وأبت إلا أن تستصحبها الى منزلها وكان الكرم المدعوم بالذبائح والضيافة الفياضة بغير معرفة سابقة الله يا أهل السودان انتم شعب غير.
أحداث كثيرة أخرى كان القاسم المشترك فيها استيقاظ وتفعيل الاحساس بالانسانية. فجيراننا في شمال الوادي ورغم ملاحظاتنا عليهم والشد الجذب معهم فى طريقة تعاملهم مع السودان ، قد فتحوا حدودهم وقالوا للسودانيين ” أدخلو مصر إن شاء الله آمنين “. وهذا الموقف العظيم يحسب لهم ونقدره جدا نحن السودانيين. مصر الشقيقة يعجبني فيها أنها تعرف مصالحها جيداً وتحرسها بكل الوسائل وتفكر بافق بعيد واسع ، وتنظر للسودان استراتيجياً ، وكان لابد أن تقدم السبت تحسباً ليوم الاحد. لذلك فهي لم تتردد في الوقوف على الاقل مع الشعب السوداني وقبوله غازياً لبلادها ومشاركة المواطن المصري في تفاصيل حياته وموارده، طالما أن ذلك يضاف في موازين علاقاتها الايجابية مع الشعب السوداني.ويكفي الكلمات الطيبه التي ظللنا نسمعها من من بعض اصدقاء السودان مثال الاعلامية القديرة/ اسماء الحسيني المتخصصة في شؤون السودان وما تقول به من مفردات ايجابية بحق السودان والسودانيين لها التحية والاحترام.
وفي هذه المحنة لا يمكن لنا إلا ان نتحدث مع كامل التقدير لشعب اثيوبيا الشقيقة، التي ايضاً فتحت حدودها بترحاب ، وتضامن شعبها متعاطفاً مع الشعب السوداني ، في محنته في وقفات ميدانية مفتوحة وهم يبدأون هذه الوقفات بانشاد السلام الجمهوري السوداني جنباً الى جنب مع السلام الجمهوري الاثيبوبي. كما إن التداخل الاجتماعي بين السودان وتشاد وجنوب السودان، ورغم ضعف البنية التحية عندهم لاستيعاب اللاجئين ، ايضاً أعطى خصوصية للنازحين من السودان، وما الحدود السياسية بيننا وبينهم إلا صناعة استعمارية تتخطاها العلاقات الاجتماعية المتداخلة.
الوضع اليوم في السودان قد تجاوز خلاف البرهان / حميدتي ، بل لمس جذور المشكلة التاريخية التي زرعها الاستعمار ، واسس عليها الوطنيون بعد الاستقلال سياسة حكم السودان، بلا وعي وتبصر. فافرز هذا الوضع المائل في طريقة الحكم ، هيكل السلطة السياسية ، الخدمة المدنية ، المؤسسة العسكرية ، وزارة الخارجية ،وكل المؤسسات الحكومية التي تتحكم في مفاصل الدولة فظل السودان طفل خديج لم يكتمل تخليقه بعد كل هذا يتطلب مواجهته بشجاعة ووح وطنية عالية ترتقي فوق التفاصيل والتراكمات السياسية والاجتماعية السالبة. وطالما أن قائمة الزلازل التي قد تهز الثوابت ، وتشمل آخرون ، الآن ينتظرون دورهم على الرصيف .فإن الحل الشامل العادل المستدام الذي يضمن استقرار الوطن ، يقتضي اشراك الجالسين على الرصيف ودون تجاوز أو أقصاء، باشراك الحركة الشعبية شمال بجناحيها / حركة تحرير السودان عبدالواحد/ مجموعة أتفاق جوبا المهزوز / شباب الثورة وأُمهات شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، على أن تتحرى القوى السياسية من الاحزاب المسؤلية هذه المرة وتترك المماحكات والمؤامرات التى تيقظ العسكر من منامهم في الثكنات. وعلى الجميع وهم يجلسون على مائدة المفاوضات أن يجعلوها الغداء أو العشاء الاخير.
ومن هنا لا يفوتني أن أًحي القائد عبدالعزيز الحلو ، الذي لم ينحاز يميناً أو يساراً في حرب الخرطوم. وقطعا له رأيه فيما يجري بين الطرفين، ولسان حاله يقول الحل في السودان الجديد بضمانات قاطعة تحقق التحول والتغيير الكامل. ندعم بقوة التوجه نحو بناء سودان جديد لكن ليس على طريقة الانتصار للافريقانية على حساب العروبة ولا تهميش الدين لصالح العلمانية، بل سودان جديد ينطلق من منصة دولة مدنية تستصحب مقاصد الدين العالية مع علمانية راشدة محمية بدستور أساسه المواطنة باستحقاقاتها المتعددة، وتنظيم علاقة الدين بالدولة وليس إستبعاده. والحمدلله أن الحركة الشعبية ما زالت ملتزمة باتفاق وقف اطلاق النار مع الحكومة وهي غير موجودة ، فلم تقم الحركة بأي اعمال عدائية مستغلة هذا الضعف والفوضى، وهذا لعمري قمة الاخلاق في السياسة وطنياً، واحتراماً للعهود.
الموقف الرسمي لغابلية القوى السياسية هو التزام الحياد تجاه الصراع العسكري بين طرفي النزاع البرهان / حميدتي ، لكن قطعاً إذا اُوقفت الحرب ودخل الناس في مفاوضات شاملة جمعت العسكريين المتحاربين والقوى السياسية بما فيها المعارضة المسلحة وشباب الثورة ، فإنه لن يكون هناك حياد تجاة قضايا الوطن المتطاولة، ورغبة المواطن في التصحيح والاصلاح. وسيكون خيارنا واحداً فقط وهو الدولة المدنية والتحول الديمراطي ، مع ابعاد العسكر من السياسة. على هذه المنصة، نرحب بمن يؤيد هذا التوجه وإلا فإن الثورة ستستمر بدفع رباعي مضاعف مرتين وثلاثة.
في الختام نشكر الوسطاء وخاصة المملكة العربية السعودية والتي يطمآننا وجودها كطرف فاعل لصالح أهل السودان وقطعاً لن تمرر ما هو ليس في صالح السودان ، ويمتد شكرنا ليشمل الاتحاد الافريقي و الجامعة العربية وامريكا والفاعلين في اوربا الذين أبدو اهتمامهم بشؤون السودان. ما تبقى من فعل فهو يقع على عاتقنا نحن السودانيين في أن نعرف اين مصلحتنا قبل أن يتفضل الاخر بتقديم المشورة لنا.
لن يكون هناك حياد تجاة قضايا الوطن المتطاولة، ورغبة المواطن في التصحيح والاصلاح. وسيكون خيارنا واحداً فقط وهو الدولة المدنية والتحول الديمراطي ، مع ابعاد العسكر من السياسة. على هذه المنصة،” كلام جميل جدا ولكن لماذا لا يكون الخيار فترة إنتقالية قصيرة توصلنا للتحويل الديمقراطي عبر انتخابات حرة نزيهة تنهي كل أنواع المحاصصات والاقتتال من أجل السلطة؛ وتعلم ان من على الرصيف كثر#