يستعصي على بعض المراقبين للمشهد السوداني، من غير السودانيين، فهم قضية جوهرية في الحرب التي تدور رحاها في السودان، ويضعون ذلك في شكل تساؤلات: لماذا لا تجد الحرب الحالية الدعم الشعبي الكاسح المتوقع في هذه الحالات؟ وكيف تساوي القوى السياسية الرافضة للحرب بين الطرفين، بينما تدور الحرب بين القوات المسلحة الوطنية وميليشيا متمردة؟
والحقيقة أن القوى السياسية المدنية التي صنعت ثورة ديسمبر (كانون الأول)، بكل أحزابها ومنظماتها ولجان المقاومة الشبابية، لم تساوِ يوماً، لا في الماضي ولا في الحاضر، بين مؤسسة القوات المسلحة الوطنية وبين قوات «الدعم السريع»، بل ظلت رافضة لها ولوجودها، ولم تتخل عن الاسم الشعبي لهذه القوات، وهو «الجنجويد»، وظلت تصدح بذلك خلال شهري الاعتصام الشعبي الكبير أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، الذي انتهى بمذبحة في يونيو (حزيران) 2019، وتكرر الشعار بوضوح في المظاهرات الشعبية التي ظلت تجوب شوارع الخرطوم منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ولم تتوقف إلا مع بداية الحرب الحالية، وكانت تهتف: «العسكر للثكنات والجنجويد ينحل»، بمعنى أن يتم حله.
مواقف العسكر
كان هذا هو موقف القوى السياسية المرتبطة بالثورة، على تعدد مواقفها أحياناً من التفاوض والحلول السياسية، وهو موقف متسق مع الضمير الوطني والحس الشعبي السليم، رغم أن له ملاحظات كثيرة على انحرافات في المؤسسة العسكرية، ومستويات مختلفة من التسييس والأدلجة بين كبار الضباط، ومصالح اقتصادية متشابكة جعلت بعض القيادات العسكرية تقف ضد مسار الانتقال السياسي، لكنه لم يدعُ إلى حلها أو استبدالها، بل رفع شعار الإصلاح الأمني والعسكري كإحدى القضايا التي يجب مناقشتها ضمن قضايا الانتقال والتحول الديمقراطي.
المدهش في هذا الأمر أن الجهة الوحيدة التي شرعت لقانونية وجود قوات «الدعم السريع» ودافعت عنها ورفضت أن تناقش أي دعوى لحلها أو دمجها في القوات المسلحة، هي القيادة العسكرية الحالية للدولة وللقوات المسلحة، بالإضافة إلى أنصار النظام القديم، الذين صنعوا قوات «الدعم السريع» وقننوا وجودها. وهذه القيادة العسكرية السياسية للدولة، تصدت للمظاهرات الشعبية التي كانت تطالب بحل قوات «الدعم السريع» وعودة المؤسسة العسكرية للثكنات، وقتلت في عام ونصف العام أكثر من مائتين من المتظاهرين السلميين، تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عاماً.
والأرشيف الصحافي مليء بحوارات وتصريحات للفريق البرهان وكبار قادة القوات المسلحة، الذين كانوا يردون على المطالبات الشعبية بالقول إن قوات «الدعم السريع» جزء من القوات المسلحة، وخرجت من رحمها، وظلوا يدافعون عنها وعن وجودها المستقل، ويتهمون القوى السياسية باستهداف وحدة القوات النظامية. بل إن الفريق البرهان، حين كان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، أصدر مرسوماً عدل فيه قانون «الدعم السريع»، وألغى المادة الخامسة التي كانت تُلزم هذه القوات باتباع قانون القوات المسلحة، وأعطاها استقلالية كاملة. ثم تآمر الجنرالان على الفترة الانتقالية، وقاما بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 على الحكومة الانتقالية، وألغيا الوثيقة الدستورية، وأخضعا البلاد لحكم عسكري شل الحياة فيها لقرابة عام ونصف العام. ونال الجنرال حميدتي مكافأة أخرى من البرهان، الذي أصدر قراراً بإعطاء قوات «الدعم السريع» 30 في المائة من أسهم منظومة الصناعات الدفاعية، وهي من أكبر المؤسسات الصناعية والاقتصادية في البلاد.
طوال السنوات الأربع منذ قيام النظام الانتقالي، لم تطرح قيادة القوات المسلحة أي تصور لضم «الدعم السريع» أو دمجه، وكانت تعتبر مجرد طرح الفكرة محاولة لخلق فتنة. وعندما اختلف الجنرالان حول النفوذ السياسي وبعض القضايا السياسية والشخصية، ومنها الموقف من أنصار النظام القديم، تدهورت العلاقات بينهما ووصلت لحد القطيعة لأشهر، قبل الحرب. ثم اندلعت الحرب لأسباب ومبررات غير مقنعة، لتحقيق أجندة ليست هي بالضرورة في مصلحة البلاد والعباد، ودمرت البنيات الأساسية والصناعية والاقتصادية، كما دمرت ممتلكات ومنازل المواطنين، وهددت بقاءهم على قيد الحياة.
الموقف الشعبي
لهذا، كان طبيعياً أن تقف قطاعات كثيرة من السودانيين موقف المتفرج من الحرب أولاً، ثم تنضم للقوى المطالبة بوقفها، باعتبارها كارثة ستودي بالوطن ووحدته ثمناً لخلاف الجنرالين، ولم تنظر لها كحرب مقدسة للقوات المسلحة الوطنية ضد ميليشيا متمردة. ولم تتنازل هذه القطاعات عن موقفها الثابت بضرورة حل قوات «الدعم السريع» ودمج المؤهلين منها في القوات المسلحة، لتبقى هذه القوات المؤسسة الوطنية الوحيدة المحتكرة للعنف ولاستخدام السلاح وفقاً للضوابط القانونية. لكنها ترى أن الحرب المدفوعة من أنصار النظام القديم، لتحقيق الفوضى التي تتيح لهم العودة من جديد وتفتيت الوطن، ليست هي الحل.
وتطرح هذه القوى الحل السياسي التفاوضي الذي يبدأ بإخراج القوات المسلحة من العمل السياسي والتنفيذي، لتؤدي مهمتها الأساسية في حماية البلاد وحفظ أمنها، وتحقيق دمج قوات «الدعم السريع» وقوات الحركات المسلحة الأخرى في المؤسسة العسكرية الوطنية، التي لا ثانٍ لها.