يمكن النظر للمَحكيات – النماذج الثقافية – التي موضوعها الخمر، كأمثلة دالة على سيادة التسامح الدِّيني في مجتمع السودان، إذ قدمت نُخبة سلطَنة سنار موقفاً متوازناً حيال الخمر، فهي لم تُبَح عندهم كما أُبِيحَت في المسيحية، كما أنهم لم يأخذوا بتشدد المالكية في العقاب.. لم يقبل المُتطرقين مُدمِن الخمر، لكنهم لم يحدوه، بل اتجهوا إلى ترفيعه من إبتلائه بها. لعل غضهم الطرف عن المريسة كان البداية للترفيع، أو هو (التحليل) الذي تطلَّبه ظرفهم التاريخي، في معنى أن التحليل كان استحضاراً لفكرة تدرُّج التشريع في اجتناب الخمر.
بدأت النُخبة الصُّوفيّة بانتشال النّاس من الركون للخمر بان جعلوا من المريسة بوابة للانغماس في سكر روحِي، في معنى أنهم كانوا يهتفون بين الشاربين بالعقيدة الجديدة التى تتقبل العليل من أجل علاجه. في هذا وردَ عن الشّيخ الهَميم أنه سَقي مدمناً للخمر (عسلاً مشنوناً)لأنه أروَى تلامذته من قربة ماء كان يحملها على ظهره لترقيق المريسة.. على هذا النحو انتشل الهميم سلمان الطوّالي – الزّغرات – بالدعوة الصالحة فتحول مِن مدمن إلى تلميذٍ تَشيَّخَ وحُظي بأحوال ومقامات رفيعة. لقد أدرك الصُّوفيّة أن ظرفهم التاريخي لا يقبل التنطع الفقهي، لذلك حرصوا على الهداية الرُّوحِية بدلاً عن التلويح بالعقوبة الحسية.. أدركوا أن القدوة الحسنة والإرشاد والدُّعاء، إلخ، وسائلَ تطهير وبرازخ انتقال إلى النقاء، فلم يكن تطبيق الحد هماً يُشغِل الحكام ولا حتـى الفُقَهاء عبّدة النصوص، لذا لم يقيموا حداً في ذلك الزمان القبلي..
في ذلك الظرف كان أقصي تشدد حِيال الخمر لا يتجاوز صيغة اللَّعنة، وهى عقاب معنوي قاسٍ مارسه الشّيخ حمد ود التُّرَابي، وقد جاء في حيثيات تلك اللَّعنة، أن الشّيخ حمد قد اضطر إلى التفوُّه بها، وأنه حدّد مسارها في بلوى ذاتية على الحاكِم (حرصاً منه على حال المُسلِمين وصوناً للسَّر الذي بينه وبينه الله).. أي كأن وَدْ الترابي يُدرِك أن مُجتَمعه لا يطيق تشدُّد المالكية حيال الخمر، وأن النّاس لا يفلحون إن ركنوا إليها.
إلى ذلك، يرى بعض المشايخ أن المريسة ليست خمراً محرماً، وأن تصفيتها وشربها وصبّها على قبر الولي أمر جائز، (كتاباً وسُنَّةً وإجماعا)..كان (صب المريسة على القبر) فعلاً لاغبار عليه ، وهو خبر دوّنه صاحب الطبقات عن أحوال دنقلا العجوز ……….
…….
من كتاب ( التصوف بين الدروشة والتثوير) ….