طرق الهيمنة على الأدب هي سمة للديكتاتوريات القلقة، فمن وجهة نظرها أن الأدب الذي لا يحمل الدعاية لها بشكل مباشر أو غير مباشر سيكون في عداد المعارضة، والمعارضة خطرٌ من الأفضل اجتثاثه في مهده. الاعتراف من الديكتاتوريات بأن الأدب والفن والفكر تقدم وعيا ضروريا للشعب، تعتبر بالنسبة لها من المحذورات والمحظورات، ومن يخالف يُعاقَب ويُقصَى. هذا التفاقم في تغييب الوعي يدفع لاحقا إلى ممارسة العنف من الطرفين: المُعارض والمُتسلط. الآن يرزح السودان تحت وطأة تنازع كان لابد لفتيله أن يشتعل في أي وقت، كأن تلك الحروب الموجعة التي استمرت عقودا لم تكن كافية، حتى انشقّ البلد الواحد إلى بلدين. والآن أصبح السودان مثل تنين برأسين يتحاربان بطعن الجسد الواحد، تترصده أخطار تمزق الوطن الواحد إلى مقاطعات! في العقود الأربعة الأخيرة على الأقل، تزايدت الأعمال الأدبية المنشورة للسودانيين خارج السودان، ولمن لا يعرف العلّة سيظنّ أن هذا حال مفرح ويستحق الافتخار بهذا الانتشار، لكن الصورة الخفية فيها ما يشبه طرد الإبداع تجاه الخارج بسبب التضييق والمنع والمصادرة والتعتيم، ناهيك عن ضآلة الأوعية الأدبية الحاضنة للإبداع في الداخل. لم تتنبه السلطة الحاكمة طوال عقود إلى القوة الناعمة للبلاد، القوة البِكر التي تُهدَر بلا مبالاة، فهي تعتبر الفن والأدب مجالا للترفيه الخفيف وليس طريقا للفكر والوعي وتمتين الوجدان. وتأمّل أيها المتأمل الصورة الدائمة والمتكررة التي نراها في بلادنا في التعامل مع أهل الأدب والفن في أي ملتقيات أدبية رسمية أو تكريمات من الدولة، وكيف يحتل الحكام وحرسهم الصفوف الأولى بينما يجلس أصحاب التكريم في الصفوف الخلفية! وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فأتذكر واقعة تكريمي مع أخريات وآخرين كسفراء أدبيين فخريين للنمسا في عام ٢٠٠٨، حين جلس رئيس الجمهورية هاينتس فيشر في الصف الثاني عشر، تاركا الصفوف الأولى للأدباء والفنانين المكرمين وعائلاتهم، ولم يقلل ذلك من قيمته واحترامه شيئا في نظر الناس، بل على العكس. لن أطرح السؤال الساذج الذي يبدأ بــ: هل يأتي يوم …..؟ لا أظن أن ثمة دورية أدبية سودانية تصدر داخل السودان لها صيت أو قدرة على الانتشار المحلي قبل أن نقول الانتشار العربي. توجد بعض البرامج الثقافية الإذاعية الجادة مثل برنامج (حلو الكلام) للإذاعية المرموقة لمياء متوكل أو البرنامج التلفزيوني (الورّاق) للمذيع المتألق غسان عثمان، لكن هل هناك حقا من يتابع هذه البرامج الثقافية من غير أهل السودان! وإن تحدثنا عن النشر فالأمر كئيب ويدعو إلى الحسرة، فدور النشر السودانية القليلة تعاني المرائر، فلا هي تحصل على دعم مادي ولا حتى معنوي، بل قد تعاني بعض إصداراتها من المنع من التوزيع أو المصادرة من المنبع، وأغلب هذه الدور لا تتمكن من المشاركة في المعارض الدولية العربية للكتاب بسبب التكاليف الباهظة لاستئجار موقع للعرض والبيع. هذا الوضع المتداعي في أمر النشر المحلي السوداني، جعل من يحالفه الحظ بالنشر خارج السودان أن يصير متمتعا بفرصة انتشار أوسع وبضوء وحرية أفضل في الكتابة. ولدي ملاحظة عابرة على أغلب الدوريات العربية التي تقدم أدبا سودانيا، فإن “بعضها” يقدم الأديب السوداني على استحياء، وستجد في الغالب أن موقع المبدع السوداني يميل أيضا لأن يكون في الصفحات الأخيرة والأسماء السودانية تسقط في الفهارس إلى أسفل، رغم أن الشخصيات غير السودانية اللامعة والشهيرة لا تحتاج بالضرورة أن تتصدر الدوريات وصفحات الأدب؛ فاسمها يكفي. هناك أيضا بعض الكتاب العرب الذين يشترطون على أصحاب المجلات والدوريات الأدبية بل وعلى الامسيات الأدبية أن يكونوا في مكان بارز أو في البداية وإلا فلن يساهموا أو يشاركوا!
السودان لديه ثقافة شفهية ثرية متوارثة مثل كل البلدان لكن لم يتم الاستفادة منها بمعرفية تستحقها. يسعدني -وأتحسر في آنٍ- هذا التراكم الثقافي المتنامي والمتعدد لثقافتنا العربية الذي تقوم كثير من المؤسسات العلمية الغربية بغربلته ودراسته لغويا واجتماعيا، بإضافة خلاصة تلك المعرفة إلى تراثهم هم، ولاحقا يمكنها استخدامه سياسيا بكل تأكيد، وهذا موضوع آخر. إنهم يعرفوننا تفصيلا، بينما نحن غافون نكرر فيما نكرر وننتقد السلوكيات الغربية في الملبس والمأكل والمشرب والخصوصيات الانسانية الطبيعية من مداخل عقائدية، ثم نعود في نهاية المطاف لتقديم الاحترام والتبجيل لتفوقه علينا، ويرسل الميسورون أبناءهم للدراسة في أرقى جامعاتهم ومرضاهم إلى أغلى مصحاتهم، وننهي الكلام بالتشدق منا بأنّ الغرب سُخِّر لخدمتنا. هذه صورة عربية مؤسفة لعدم قدرتنا على المساهمة حداثيا في المنجز المعرفي الذي يؤسس للأدبي والفني. فيما يخص الأدب السوداني فهناك استسهال نقدي عربي، لديه نموذج قياسي يصبّ فيه الأدب السوداني صبًّا، فكثير من النقاد العرب، وفي السودان أيضا، يستسهلون ويستلهمون (موسم الهجرة إلى الشمال) كمقياس ومعيار لكل أدب سوداني، وأصبحت المادة الغزيرة الموجودة عنه تسمح لأي كسول بأن يجمعها في عِقْد نقدي يضفره في الكتابة عن أي رواية سودانية حديثة مختارة. على سبيل المثال، مَن مِن الكُتاب السودانيين كتب سردا ولم يخلع عليه الناقد من سمات طيب الذكر الطيب صالح. أغلب النقد أو الحديث أو الحوار عن كاتب سوداني لابد أن يضِمّنوه منحى الاغتراب والهجرات والشمال وشيئا من المواسم. صَنّموا كاتبنا المبجل الطيب صالح، وقد غضب مني البعض وشكك في احترامي ومحبتي للطيب صالح، حين كتبتُ أن “تصنيم” الطيب صالح ليس في مصلحة استمرارية الأدب السوداني الحديث فهو كاتب فذ بلا شك، لكن علينا أن نؤمن بميلاد أفذاذ جدد في هذا البلد. هذا الأمر في النكوص الأدبي نحو كاتب معين حدث في مصر لفترة وجيزة مع نجيب محفوظ بعد فوزه بجائرة نوبل، وإن كان تعدد المنابع الأدبية في مصر قد استطاع أن يوزعها قصصيا نحو يوسف ادريس وروائيا نحو نجيب محفوظ وأدبيا وفكريا نحو توفيق الحكيم وشعريا نحو صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وحجازي وهكذا. لم ينتبه أيضا بعض النقاد إلى البراعة القصصية الاستثنائية للطيب صالح للكتابة عنها بما تستحق. من ناحية أخرى، لولا ظهور نجم الطيب صالح في بيروت بعد أن نشر توفيق صايغ صاحب مجلة “حوار” روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) كاملة، ثم صدورها بعد ذلك في القاهرة بمقدمة باذخة من الناقد المعروف رجاء النقاش؛ ربما لتوقّف الطيب صالح عن نشر أيّ كتابة لاحقة على الإطلاق.
مع أن الشعب السوداني من أكثر الشعوب نهما للقراءة؛ إلا أن الوجبات الأدبية والفنية المتاحة قليلة نسبيا، وقد أدى انحسار بقية الروافد الداعمة إلى ضمور انتشاره والتعرف عليه بما يستحق داخل السودان. ما زال أمر النشر يسير عسيرا والتوزيع أكثر عسرا، إضافة إلى إهمال ضرورة اعتبار الكتاب سلعة اقتصادية لابد لها من عائد حتى تستمر. ليس لدي علم بما تقوم به وزارات الثقافة في كل ولاية داخل السودان، ولا أدري ما حجم الميزانيات المقررة، لكنها بالتأكيد ضئيلة جدا، ولا أدري شيئا عن دعم الشباب أو الجوائز الأدبية وهنا لا يستطيع السودان أن يقدم فنا يتناسب مع مواهبه المحجوبة، فالموهبة وحدها لا تشفع، وقِس الأمر على كل مناحي الحياة. أكتب هذا الكلام في لحظات حاسمة موجعة في تاريخ السودان، مؤمنا بأن الخير سيعود طال الزمن أو قصر. فتحية لكل إنسان سوداني على الأرض يبحث عن الخير بالخير!