عندما تتحدث البنادق، يصبح كل شيء بلا مذاق، فالأمن هو أساس الإحساس بطعم الحياة.
وبرغم هذه الحقيقة، فقد جعل الله للإنسان طاقة داخلية تمنحه الأمل، الذي يبدد شيئًا من التشاؤم الذي يداخله مع كل خطب، وخصَّ أناسًا بأن يكونوا مشاعل تضيء الدروب المظلمة، ومن أولئك بعض أهل الفن الذين يبثون طاقة إيجابية في المجتمع ليحافظ على تماسكه، ويقاوم أسباب اليأس والانكسار.
وقد جاء المعرض التشكيلي الثلاثي لتشكيليين سودانيين في قلب رياض الخير مصدرًا للأمل، وحراكًا إيجابيًا في زمن السلبية، بدءًا من اسمه “عبق”، الذي يرتبط بالطيب ورائحته الذكية، ومرورًا بأسلوب العرض الذي أتى بمستوى المحتوى الفني الرائع المتمثل في لوحات كل من الفنان الدكتور طارق مصطفى أبوبكر، والفنانة وصال الأمين، والفنان الجعلي حسن الملك، الذين اختلفت أساليبهم في التعبير الفني، إلا أنها اتفقت في حمل صفتي الروعة والجمال، وإبراز قدرات الفنان التشكيلي السوداني، الذي يظلمه ضعف إعلامنا، وشدة تواضع الفنان نفسه، حتى يصل إلى حد التقصير في عرض منتجه الفني.
وكان الحضور البهي من الجمهور العاشق للفن دليلاً على عالمية لغته، وتعطش ذائقي الفن الأصيل إلى إشباع أنظارهم بنوع من المتعة، الذي لا يتوافر إلا في مثل هذا “العبق”.
وتنوَّع الجمهور، فكان إلى جانب السودانيين، عدد مقدر من الأشقاء السعوديين، والأشقاء والأصدقاء من جنسيات عربية وأجنبية، وكانت الملاحظة الحضور اللافت للجنس اللطيف، الذي بدا مهتمًا بالتفاصيل، وتجلّى ذلك في حرص عدد كبير من الحاضرات على استنطاق الفنانين المشاركين، ومحاولة معرفة بعض الأسرار، التي يخفونها، أو الوقوف على بعض المعاني التي حملتها لوحاتهم.
وكانت الرعاية الكريمة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن ناصر بن عبدالعزيز آل سعود للمعرض في مساء الأحد (11 يونيو 2023م) تأكيدًا للحفاوة الذي يجدها الفنانون السودانيون في وطنهم الثاني المملكة، خصوصًا أن بين التشكيليين السودانيين من مثّلوا حضورًا باذخًا في المشهد التشكيلي السعودي، ولعلي هنا أذكر التشكيلي الكبير معلم الأجيال الدكتور محمد عبدالمجيد فضل، والراحل المقيم الفنان أحمد خوجلي.
تحدث الدكتور طارق مصطفى عن مشاركته، فقال إنها “جزء من مشروع فني امتدَّ أكثر من 10 سنوات. التصاميم متنوّعة للآية الكريمة “بسم الله الرحمن الرحيم”، وأردتُ بهذا الاختيار أن أشركَ غيري في تسجيل لحظات تأمل وتفكير فيها، وذلك لمعرفتي المتواضعة بجانب من فضلها ولحبي وتعظيمي لها”.
وأوضح أن هذه الأعمال “لم تأت بصورة مباشرة في دائرة الخط العربي بأنواعه المعروفة، والذي يمثل أعظم ما في تراث هذه الأمة. ويقف دليلاً على قدرتها غير المحدودة في استحداث تنوعات ثرة عبرت عن عبقريتها في الوفاء بجماليات للحرف ذات أسس راسخة طلّت محور اهتمام الباحثين إلى يومنا هذا”.
وأضاف: “وقد أفاد الحرف العربي كثيرًا من ارتباطه الوثيق بالنصوص القرآنية، وناله من القداسة والتقدير ما انعكس على مستوى تجويده وإتقانه، والتزام قواعده”.
وحقيقة من يتمعن في لوحات الفنان طارق يجدها تتميّز بالتنوع الثر، على الرغم من امتلاكه أسلوبًا خاصَّاً في استنطاق الحرف العربي، لا يشاركه فيه أحد، ويأتي تشكيله للحرف في فضاء يجعله يتماهى مع البيئة الخارجية التي حول اللوحة.
كما أنه يتميّز باستخدام متفرّد للحرف العربي، مع توظيف الألوان، لتتشكّل لوحة فنية تعبر عن نفسها، وتحمل معانيها التي تختلف عن معاني غيرها من اللوحات، مع اتفاقها على تعظيم المولى جلَّ جلاله، وإبداء اعتزاز منقطع النظير بالحرف العربي، الذي يتأكد في أعمال هذا الفنان ما يتسم به من مرونة وجماليات قلّ أن تتوافر في غيرها من الحروف.
وفي تقديم مشترك قال الفنان الجعلي الملك والفنانة وصال الأمين: “ندرك انفتاح التجريد على كم من الاحتمالات تمنحه أجنحة من المعاني والأحاسيس ما يمكّن العمل الفني من ملامسة مختلف المشاهدين على اختلاف أذواقهم ومشاربهم”.
وأضافا: “الإدراك والوعي الخاص بالفنان يحملانه على التعبير بملكته الفنية، وكل من يتمهل ويمعن النظر لا بد واجد سبيلاً إلى قلب العمل الفني، حتى وإن كان سبيله هو لوحده”.
والفنانان اللذان آثرا الحديث في مطوية المعرض بلسان واحد، يتمتع كل منهما بأسلوبه المميّز، وروحه الفنية المتفردة، وموضوعاته الأثيرة.
والمحصلة أن الفنانين الثلاثة يمنحون زائر معرضهم لحظات من المتعة تغسل بعض هموم الواقع، وتجعل من يرتاده من السودانيين فخورًا بأن يكون هؤلاء من مبدعي وطنهم الجريح، وقد لمحت الدهشة والإعجاب في نظرات الحضور من غير السودانيين، ومنهم من خبروا التشكيلي السوداني وعرفوا قدراته، وبينهم من تتلمذ على عمالقة من التشكيليين السودانيين.
وقد شعر الجميع بعبق السودان، الذي يظلّ يمنح الأمل في غد مترع بالإشراق والإبداع، لترتسم من جديد لوحة وطن يفرد أذرعه لاحتضان أبنائه، ليرتاحوا من رهق كابوس عابر.
شهد حفل الافتتاح الأمين العام لجهاز السودانيين بالخارج مكين حامد تيراب والقائم بأعمال السفارة السودانية لدى المملكة العربية السعودية مهند عجبنا، وعدد كبير من الصحفيين والتشكيليين وممثلي جمعية الصحفيين السودانيين، والملتقى السوداني والرابطة الرياضية للسودانيين بالخارج (الصالحية)، وغيرها من مكونات الجالية السودانية، وقامت الفضائية السودانية بالتغطية، فأجرى أشرف عبدالله عدداً من اللقاءات، وصاحبه في التصوير بدرالدين هجو، وقدم العازف عبدالرزاق والتشكيلي إسماعيل حسن مقطوعات موسيقية وجدت الإعجاب.
يستمر المعرض حتى الأحد (18 يونيو 2023م) بجاليري ملتقى الحضارات بالبرج الرابع في مجمع الموسى بحي العليا.