هالني ما رأيت من خراب لحق ببيوتنا، وتأكد لي أن من غزو تلك البيوت وانتهكوا حرمات المواطنين لا يستحقون إلى وصف أوباش، فهؤلاء لم يراعوا إلا ولا ذمة، ولا يمكن لأحد أن يسوغ هذا الفعل البربري، الذي يبرز ما في النفوس من مرض وغل.
وهؤلاء لا يمكن أن يكون ولاد ناس، أي لهم أسرة وأهل وقبيلة، لأن المنتمي الذي له جذور في هذه الأرض لا يمكن أن يكون بهذه الوحشية والبربرية، فهم لا يكتفون بتهجير المواطنين من ديارهم، وإنما يقتحمونها، ويستبيحون كل ما فيها، ويزيد على ذلك التخريب الذي يحدثونه في كل ركن فيها، فلم يسلم الأثاث، ولا المرافق، بل طالت أياديهم الآثمة البلاط والرخام، فعملوا تكسيراً حتى في النوافذ والأبواب، وهدموا البلكونات، وفوق ذلك حملوا كل خفيف وثقيل.
لا يستطيع أولئك الحاقدون تقدير ما عاناه أصحاب تلك البيوت من أجل تأسيسها، لضمان مأوى لهم يلوذون به، وبينهم من وصل إلى أرذل العمر، وهو يعمل ويؤسس، وبينهم أرامل وأيتام ذهب رب الأسرة، ولم يترك لهم سوى هذا المأوى.
إنّ من شاهد بعض المقاطع وهؤلاء الأوباش يقتحمون المنازل يدرك أن هؤلاء ليسوا سودانيين، ولا ينتمون إلى هذا الوطن، فهم يجهلون رموزه في كل ميدان، بل لا يعرفون أن كؤوساً يُحتفظ بها للذكرى، كما رأينا وسمعنا تعليق من اقتحموا منزل كابتن السودان والمريخ سامي عزالدين، وعلى بساطة المنزل تشعر الدهشة والغل في عيونهم ونبرات صوتهم، وهم يلصقون تهمة “الكوزنة” بأصحاب البيوت، ويقصدون أنهم لصوص، وإلا ما كان لهم هذه المنازل الفارهة في ظنهم.
الأدهى والأمر أنّ هؤلاء يدعون أنهم دعاة ديمقراطية، بل دعاة دين، وهداة مهتدين، إذ وجدنا من يريد إقناع قساوسة ورهبان بالدخول في دين الله أفواجاً، وفي الوقت نفسه، لم يتورعوا عن نهب كنيستهم ومنازلهم وسياراتهم.
إنَّ هذه الأزمة توضح بجلاء أن من حملوا شعارات “الهامش”، و”وسيطرة المركز”، و”هي لله”، وغيرها، هم في الحقيقة مرضى نفسيون لا مكان لهم إلا دور الرعاية النفسية، حتى يتخلصوا مما يعانونه من شيزوفرينيا واضطراب نفسي، وقبلهم أولئك الذين حشوا رؤوسهم بتلك الشعارات الفارغة من أجل المتاجرة، والعيش على تغييب الآخرين، وعذاباتهم.
وقد قرأت لأحد المستشارين مسوغات للأعمال الوحشية فيها كثير من قلب الحقائق، ومجملها أن على من في العاصمة أن يذوقوا من كأس أهل الهامش، وأن الخرطوم ليس على رأسها ريشها، والأعجب أن هذا المستشار لا يعاني ما يعانيه المهمشون الذين يدعي الدفاع عنهم، لأنه ببساطة يحمل جنسية أجنبية، ويمارس مهمة الاستشارة من على البعد، وفوق السحاب، وهو يمتطي ظهر أحدث الطائرات، مستمتعاً بمجالسة علية القوم في العالم، في الدرجة الأولى.
لقد نبهنا منذ سنوات من هذا الداء العضال، ورفعنا شعار “الخرطوم تجمعنا”، وقلنا إنّها “البوتقة التي ينصهر فيها كل أبناء السودان، ومن ثم فهي جامعة لهم، وليست مهمشة لغيرها من مناطق السودان الأخرى”، ويقيننا أن هذا الدرس القاسي الذي جاء من رحم الأزمة سيجعل هذه الفكرة رائجة في مقبل الأيام، وحينها ستعود الخرطوم أزهى وأجمل بإذن الله.