مع اندلاع الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي انخفض صوت الحركات المسلحة الذي كان عالياً في المشهد السياسي قبل هذه الحرب، مما أحدث في أحيان كثيرة توتراً بسبب مواقفها السياسية المتباينة والتهديدات التي يطلقها بعض قادتها الذين يتبوأ معظمهم مناصب سيادية عليا في السلطة خلال الفترة الانتقالية (مجلسي السيادة والوزراء، وحكومة دارفور)، وذلك في حال المس باتفاق جوبا للسلام الذي وقعته هذه الحركات مع الحكومة السودانية في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
لكن في هذه الحرب وقفت الحركات المسلحة موقف الصامت والمتفرج من دون أن يكون لها دور بارز كما كانت تفعل في السابق، فيما أعلن بعضها التزام الحياد بالوقوف على مسافة واحدة من الطرفين المتحاربين، فكيف ينظر المراقبون إلى موقف هذه الحركات في الصراع المشتعل بالعاصمة، ومدى أثر ذلك وانعكاساته المستقبلية على اتفاق جوبا للسلام؟
واقع جديد
يشير أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية عبده مختار إلى أن “الحرب فرضت واقعاً جديداً على الحركات المسلحة وأصبحت أمام خيارات جديدة تباينت فيها مواقفها بين من اعتصم بقواته في مكانها مثل حركة جيش تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور، ومن مارس انتهازية واحتل مواقع الجيش في جنوب كردفان كالحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبدالعزيز الحلو، ومن لاذ بالصمت لأنه جزء من الحكومة مثل حركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم، لكن الموقف الوحيد الأكثر وضوحاً هو موقف حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي التي أعلنت الحياد ونادت بوقف الحرب”، لافتاً إلى أن عدم مشاركة أي من الحركات في القتال لجانب أي من الطرفين هو الأفضل للسودان، لأن مشاركة أي منها في الحرب بالتالي في المفاوضات الجارية لإيقافها كانت ستعقد الأمور أكثر وأكثر.
وتابع مختار “لكن بصورة عامة فإن الواقع الجديد الذي تواجهه هذه الحركات هو أن الحرب سحبت البساط من اتفاقية جوبا التي استندت على ظلم من النظام السابق، فأصبحت من دون شرعية تسندها ولم يجزها برلمان، ولم تشارك فيها كل الأطراف ذات العلاقة، كما أنها في الواقع انتهت بمناصب فقط للقيادات الموقعة عليها، بينما لم تقدم أي شيء لإنسان دارفور التي زعمت أنها وقعت لأجله، حيث ازداد الوضع في الإقليم سـوءاً”، معتبراً أن هذه الاتفاقية بحكم الواقع لا قيمة لها أمنياً واقتصادياً واجتماعياً لمواطن دارفور، وتم اختزالها في مصالح قادة الحركات الموقعة عليها.
التمييز الإيجابي
وزاد أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية “كما أن المبرر الذي يثار بأن دارفور متأثر بالحرب لم يعد الآن حكراً على هذا الإقليم، لأن الحرب أدخلت مناطق أخرى لا سيما العاصمة الخرطوم ضمن المناطق المتأثرة بالحرب، مما يستلزم إلغاء اتفاقية جوبا وإعادة بناء السودان وتعويض كل المتأثرين بهذه الحرب بمعادلة جديدة ليست حصراً على دارفور، بل لكل البلاد لتسود المعالجة العادلة والعدالة الشاملة والتنمية المتوازنة لكل السودان، والعمل على اجتثاث أي عوامل أو مبررات للتظلمات والتمرد والحروب، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الواقع لو أردنا أن نؤسس لدولة مستقرة تقوم على العدالة الحقة وليس أن تفرض جهات شروطها بحكم أنها تحمل السلاح، ثم تأخذ أكثر مما تأخذ الولايات الأخرى في البلاد، بيد أنه في واقع الأمر لا يستفيد من ذلك مواطن دارفور”.
ومضى أستاذ العلوم السياسية قائلاً “إذا كان قادة الحركات المسلحة يتمتعون بالضمير الوطني وليس بالأنانية والمصالح الذاتية فعليهم أن يدركوا أن اتفاقية جوبا تجاوزتها الأحداث، وعليهم أن يتحولوا إلى أحزاب سياسية تتنافس مع بقية المكونات السياسية في نظام ديمقراطي حقيقي، مع استصحاب حقيقة أن إنسان دارفور سيستفيد من معادلة التمييز الإيجابي التي ستحقق له مكاسب مباشرة لا أن يتم اختزال الاتفاقية في مناصب قادتها”.
مواقف مختلفة
بدوره، قال مساعد الرئيس للشؤون السياسية في حركة جيش تحرير السودان (المجلس القيادي) أسامة مختوم “معلوم أن حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا هي 14 حركة تضم حركات مسلحة وأخرى غير مسلحة، ولا يخفى على السودانيين أن هذه الحركات جمعها اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه في جنوب السودان، والأصل أن لكل حركة مشروعاً ومبادئ تختلف من فصيل لآخر، منها ما هو أقرب إلى اليمين وما هو أقرب إلى اليسار، ومن الطبيعي أن تكون هناك مواقف مختلفة بينها، لأنها لا تمثل تنظيماً واحداً، لكنهم التقوا من أجل سلام واستقرار إقليمهم”.
وأضاف المسؤول السياسي “ما حدث من حرب في الخرطوم هو عمل مؤسف، ولا بد أن تتكاتف الجهود الوطنية المخلصة لإيقافها، بخاصة أن معارك مماثلة تدور في الجنينة ونيالا والفاشر وزالنجي والأبيض، ومؤكد أن الحركات المسلحة جزء من الكيانات الوطنية التي تساند جهود تحقيق السلام والاستقرار في هذا الوطن، بالتالي فإن الهدف الواضح والمتفق عليه بإجماع هذه الحركات هو العمل على إيقاف الحرب، وأعتقد أن هذا الموقف يمثل موقفاً وطنياً نبيلاً، فضلاً عن كونه مسؤولية وطنية عالية المستوى”.
مصير اتفاق جوبا
وواصل مختوم القول “أما عن خروج جيوش الحركات المسلحة من الخرطوم أو المشاركة مع الجيش السوداني في هذه الحرب، ففي الحقيقة هناك عدد قليل من جنود الحركات تم دمجه في القوات المسلحة السودانية خلال العامين السابقين تحت تسميات مختلفة، بالتالي تعتبر هذه القوة المدمجة ضمن منظومة القوات المسلحة، إذ تتلقى تعليماتها وتوجيهاتها من القيادة العسكرية في الجيش السوداني بحسب ما جاء في اتفاق جوبا”.
وأردف مختوم القول “بالنسبة إلى القوة التي لم يتم دمجها في الجيش فهي الآن خارج صفوف أي قوات نظامية، وتقع مسؤوليتها على عاتق حركاتها مباشرة، وحفاظاً على أشياء كثيرة قررت هذه القوات الخروج من الخرطوم واللحاق برئاساتها بدارفور للمساهمة في استقرار الأمن في الإقليم وتخفيف آثار الحرب ولو بالقليل لصالح المواطن هناك”.
وأوضح مساعد الرئيس للشؤون السياسية في حركة جيش تحرير السودان، حول ما يثار عن مصير اتفاق جوبا ما بعد الحرب الحالية، قائلاً إنه “وثيقة سلام وقعت بعد حرب دارت لمدة عشرين عاماً، فحتماً أن الجميع ما بعد توقف هذه الحرب سيطلب السلام، وسيكون اتفاق جوبا ضرورة منعاً لأي حروب تقع مرة ثانية من أي طرف كان، فإلغاء هذا الاتفاق يعني إرغام أطرافه للرجوع إلى المربع الأول الذي ترفضه الحركات المسلحة أكثر من أي جهة أخرى في السودان”، منوهاً بأن الحرب لعينة وكلفتها باهظة على الإنسان، وعلى السودانيين عدم إشعالها بل التمسك بالسلام.