أعاد الترحيب الواضح للحكومة السودانية بمبادرة دول منظمة «إيقاد» للتوسط لوقف القتال في السودان، للأذهان، سلوكاً قديماً متعارفاً عليه للحكومة السودانية السابقة ورثته الدبلوماسية الحالية التي يقودها بعض من رموز النظام القديم، وهو إغراق السوق السياسية بعدد من المبادرات، ثم التجول بينها والقفز من إحداها للأخرى، بما يمكنها من الإفلات من الضغوط والمواقف التي لا ترغب في اتخاذها، وهو سلوك أسمته أطراف المعارضة في ذلك الوقت «التبضع في سوق المبادرات»، في استلاف لعبارة قالها زعيم «الحركة الشعبية لتحرير السودان» الراحل الدكتور جون قرنق.
عام 1998 قبلت الحكومة السودانية بمبادرة منظمة «إيقاد»، للتوسط بينها وبين «الحركة الشعبية»، لكنها تراجعت عن القبول بعدما طرحت المنظمة مسودة إعلان مبادئ لحل المشكلة ووقف الحرب (1998).
كان إعلان المبادئ بسيطاً ومختصراً، لكنه حمل نقطة كانت بمثابة خط أحمر للحكومة السودانية، وهي تتحدث عن القبول بفصل الدين عن الدولة أو إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير، في حين قبلت به «الحركة الشعبية».
تجمدت المبادرة وتوقف التفاوض لفترة، وكثرت الضغوط على الحكومة السودانية من دول العالم، وكثرت عليها الإدانات في المنابر الدولية فتلفتت تبحث عن مخرج فوجدته فيما عرف بالمبادرة المشتركة المصرية، ثم جاء عرض من الرئيس الزيمبابوي روبرت موغابي لاستضافة اجتماع بين البشير وقرنق في العاصمة هاراري، وبادرت الحكومة السودانية بالترحيب بالمبادرتين.
أرسل الدكتور جون قرنق الوفود لعواصم هذه الدول يشكرها على جهودها، ويذكرها بوجود مبادرة وإعلان مبادئ تم تجهيزهما، ودعاهم للانطلاق من إعلان المبادئ ودعم مبادرة «إيقاد».
وفي لقاءاته الصحافية اتهم قرنق الحكومة السودانية بممارسة هواية «التبضع في سوق المبادرات» بغرض تشتيت الانتباه وإغراق الأطراف والوسطاء في سيل من المبادرات والمواقف، بما يمكن الحكومة من الهروب من الالتزام بموقف محدد.
بعد أيام قليلة من بدء الحرب الأخيرة في السودان، قبلت الحكومة السودانية بالوساطة السعودية – الأميركية، وأرسلت وفودها للتفاوض على قضايا وقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وعندما تردد أن هذه مرحلة أولى، وأن المراحل التالية تشمل توسيع قاعدة التفاوض بتوسيع الأجندة وإشراك القوى المدنية، إضافة إلى التهديد بفرض عقوبات على الأطراف غير المتعاونة، بدأت الحكومة السودانية، التي يمثلها الجيش السوداني، في البحث عن مخرج من هذا المنبر.
وللمضي في هذا الاتجاه أعلنت الحكومة قبولها دعوة رئيس جنوب السودان سلفا كير للقاء ممثلي الطرفين في جوبا، ثم عادت وكررت قبولها بمبادرة دول «إيقاد»، وشاركت في اجتماعاتها في جيبوتي عبر الفريق مالك عقار الذي تم تعيينه نائباً لرئيس مجلس السيادة، وإن كانت قد تحفظت على رئاسة كينيا للجنة الوساطة، وفضلت جوبا على نيروبي.
لكن لماذا تفعل الحكومة السودانية ذلك…؟
النقطة الأولى تتعلق برمزية التفاوض في منبر جدة، فالتمثيل هناك للجيش السوداني و«قوات الدعم السريع»، وترى الحكومة السودانية أن في هذا التمثيل انتقاصاً لها، فهي تفضل أن يكون التفاوض بين الحكومة و«الدعم السريع». النقطة الثانية تتعلق بكون طرفي الوساطة، المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، من الأطراف الداعمة للعملية السياسية التي أجهضتها الحرب، وبالتالي من المؤكد أنه عندما تبدأ المرحلة الثانية من التفاوض لن تبدأ من الصفر، وقد يتم استدعاء الأدبيات السابقة، ومنها الاتفاق الإطاري الذي وقعته كل الأطراف، لكن يبدو الجيش والفريق البرهان غير راغبين في الالتزام به.
النقطة الثالثة هي كون طرفي الوساطة أصحاب ثقل ووزن كبيرين في السياسات الإقليمية والدولية، بحيث يصعب معاكستهما ومعارضتهما، وإن حدث ذلك فسيكون الثمن باهظاً ومرتفعاً لا تقدر عليه الحكومة السودانية الحالية المعزولة إقليمياً ودولياً.
لهذه الأسباب يفضل الطرف الحكومي منبر جوبا أو «إيقاد»، حيث سيشارك فيه من البداية كحكومة، خاصة أن السودان كان هو الرئيس السابق لـ«إيقاد»، كما أن هذه الدول لا تبدو ميالة للالتزام بالاتفاقيات والمواثيق السابقة، وبالتالي هناك فرصة لإعادة ترتيب الأوراق والبداية من الصفر، وأخيراً كل دول «إيقاد» هي من داخل الإقليم، ولا تتمتع بنفوذ دولي كبير يمكّنها من ممارسة الضغوط على الحكومة السودانية أو فرض عقوبات عليها.
لم تكتمل حتى الآن عملية القفز من منبر جدة لمنبر «إيقاد»، وقد تمارس الدول الكبرى، وحتى الاتحاد الأفريقي، ضغوطاً على منظمة «إيقاد» لكي لا تمضي في طريق المنبر المنفصل، وتضم جهودها إلى منبر جدة، حتى لو تم توسيعه، وعندها قد تتلفت الحكومة السودانية حولها علّها تتلقف مبادرة جديدة.
فيصل محمد صالح
وزير الإعلام السوداني السابق